شيطنة المقاومة الفلسطينية… لوم الضحية

لميس أندوني

حرير- منذ دخول اتفاقية وقف إطلاق النار في غزّة حيز التنفيذ، اشتدّت حملة إعلامية ضد المقاومة الفلسطينية، إن كانت حركة حماس أو حزب الله، بأعذار مختلفة، أهمها أنها تساهم بإضعاف العالم العربي وتقوية النفوذ الإسرائيلي في المنطقة، وكأن الدول العربية قبل ذلك كانت قوية منيعة غير مخترَقة من إسرائيل وغيرها، فجاءت عملية طوفان الأقصى وهدمت كل شيء… هنا لا بد من التوقف قليلاً؛ هناك فرق بين توجيه نقد قاس إلى هجمة 7 أكتوبر (2023) ضد الكيان الصهيوني، المدعوم سياسياً وعسكرياً من أميركا وبريطانيا وألمانيا على وجه الخصوص، والهجمة الحالية على المقاومة من القوى والأبواق التي تستعجل توسيع التطبيع وتعميقه مع إسرائيل، وتعتبر القضية الفلسطينية عبئاً على العالم العربي وشعوبه، وأنه لا بد من التطبيع مع إسرائيل لتحقيق “السلام والازدهار” في المنطقة.

عليه؛ تجد هذه الأصوات في “هزيمة المقاومة” فتحاً جديداً لتكملة مسارٍ عطّله “طوفان الأقصى”، ولا بد من تكملته من جديد.

لمثل هذ الأصوات، وبعضها فردية تعتبر وجهة نظرها “لبرالية” متقدّمة، بدعوى إفساح المجال للشعوب العربية للتركيز على قضايا التعدّدية وكسر شوكة التيار الإسلامي في الدول العربية، و”التحرّر من حمل” الارتباط بالقضية الفلسطينية وقيودها. ولكن أغلب هذه الأصوات مرتبطة بمشروع إقليمي، عمادها توسيع الاتفاقيات الإبراهمية، مع إسرائيل، لأن ما ترى أنه صراع “عقائدي”غير مبرر، يحاول الفلسطينيون و”الراديكاليون” العرب واليساريون في العالم تمديده “أي الصراع”، فالحل في رأي هؤلاء هو الضغط على الشعب الفلسطيني لقبول “السيادة والسيطرة الإسرائيلية كأمر عقلاني، وغير ذلك تهور وانتحار”.

العجيب في الحجج التي يسوقها هذا التيار، أنه يتخذ مشهد الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل في غزة دليلاً على صحة إنهاء الصراع مع إسرائيل بالاستسلام لشروطها وبقاء الفلسطينيين تحت الاحتلال، وما حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل وتشنها إلا إثبات أن مواجهة القوة الإسرائيلية رهان خاسر و”غبي”، بل يلوم الفلسطينيين والمقاومة على ما ترتكبه إسرائيل.

أي ممارسة أبشع أشكال “لوم الضحية”، بكل وقاحة وقلة أدب أو غياب مشاعر التعاطف الإنساني مع الفلسطينيين أو اللبنانيين، لأن التيار التطبيعي لا يعطي اعتباراً لقيم العدالة وحقوق الشعوب، فموازين القوى تحكم، ولا يحقّ لأحد محاولة تحدّي الاستعمار، بل إن بعض هذه الأصوات تعتبر الاستعمار منارة حضارة وتقدّم لا بد من التودد لنيل رضاها والسجود لها.

رأينا مشاهد من هذا التذلّل في حفل احتفاء مبتذل قبل أشهر في بيروت بالمبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس، المعروفة بلغتها الاستعمارية والصهيونية ولهجتها الاستعلائية، وهو مشهد علني لتجليات تذلّل ودونية لاستقبال مبعوثي واشنطن في لبنان ودول عربية أخرى، لكن للاحتفاء بأورتاغوس نكهة خاصة تناسب مظاهر الترف لنخبٍ عربية. فلا يمكن جلب أمهر مصففي الشعر للمندوب السامي، توم برّاك، ولا ينفع عرض آخر صرخات الفساتين النسائية من مصمّمين لبنانيين عالميين المبعوث الأميركي والجندي الإسرائيلي السابق الذي فرض شروط إسرائيل على لبنان، آموس هوكشتاين، فطقوس نخب الموضة لا تناسب الرجال، وتليق بسيدة تمارس وقاحتها بالكعب العالي كأورتاغوس، فلم يكن ما رشَح من فيديوهات مجرّد حفل احتفال بهزيمة “المقاومة”. وسواء علم المشاركون في حفل أورتاغوس أم لم يعلموا، ما يفعلونه احتفاء بالتطبيع مع الإملاءات الإسرائيلية، ولا اسم ثانياً له.

يستوجب خنوع تلك النخب شيطنة فكرة المقاومة، وليس الحديث هنا عن مقاومة مسلحة هنا، فأهل التيار التطبيعي والنخب المتذللة يأنفون من أي أشكال سلمية لمواجهة إسرائيل، من مقاطعة شركات أو منتجات تساهم في تمويل مجازر إسرائيل، أو تأييد لحملات حقوقية، فهذه في نظرهم مظاهر “تخلف”، فيها هدر للوقت وإفساد لحياة ترَفٍ منعزل عما يحدث حوله، فمن لم يتأثر بحرب الإبادة الإسرائيلية لن يتأثر بأي احتلال وظلم ترتكبه إسرائيل، لا في فلسطين ولا في جنوب لبنان ولا في سورية، ومن يقاوم، ولو بالكلمة، هو المَلُوم، فلوم الضحية أداة قمع نفسية للفكر الحر والتحرّر، وهذا هو جوهر التيارات التطبيعية والداعية إلى الخضوع لإسرائيل. فكلام المقرّرة الأممية لحقوق الإنسان في المناطق الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيز، لا يهمهم، بل قد يضايقهم، ويؤذي أسماعهم؛ فالمحامية الشجاعة تتحدّث باسم القانون، وتعطي صوتاً لضحايا الحرب الإسرائيلية الأميركية على الشعب الفلسطيني، وترفض منطق لوم الضحية، بل تؤكّد مشروعية المقاومة في وجه الاحتلال، وهذا كله منصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة. ولكن التيار التطبيعي يعتبر ذلك ضرباً من كلام لا يفيد ويؤذي مسامعهم. فتحالف التيار التطبيعي مع النخب المتقوقعة في فقاعة البذخ والمظاهر طبيعي، بل منطقي، لأن نصرة الجنوب اللبناني وغزّة تقض مضاجعهم، فاللوم يقع على المقاوم ومن يرفض ترك أرضه في فلسطين والجنوب اللبناني، وكل من يقف في صفهم.

الأخطر في هجمة التيار التطبيعي والنخب الخنوعة على المقاومة أنها تشارك إسرائيل وأميركا في تصفية القضية الفلسطينية، فالقضية أصبحت مصدر إزعاج لا بد من التخلص منه. ووفقاً لهذه العقلية، هيمنة إسرائيل وأميركا على المنطقة، بما في ذلك احتمال توسع إسرائيلي استيطاني في لبنان وسورية والأردن، جزء من القبول “العقلاني” لسيطرة الأقوى، وفي أحسن الأحوال دافع للقضاء على المقاومة فكرةً وممارسة، لأن الالتزام بالقضية الفلسطينية والمواجهة، ولو بالشعر والأدب والفن، يجلب المصائب ويبرّر لإسرائيل توسّعها وعدوانها.

لا تغفر النخب الخنوعة لـ”طوفان الأقصى” نقضه عالم النسيان الذي كانت تعيش به قبل “7 أكتوبر”، فمسار التطبيع كان سائراً، والازدهار “الموهوم” في الطريق، وشاعت مقولة “سئمنا الحروب مع إسرائيل”، وكأن العرب من استوطنوا أرضاً يملكها “الصهاينة”، وكأن الفلسطينيين هم المحتلون وبناة المستوطنات، أو كأن هذه النخب هم من يحاربون دفاعاً عن فلسطين.

قبل “الطوفان” كل شيء كان بخير، والأمور على ما يرام، زحمة احتفالات ومهرجانات غناء وترفيه (ولسنا هنا ضد فكرة الحفلات الغنائية) وممنوع الإزعاج، فمن يناضل من أجل الحقّ يزعج الانسجام، ومطالبه ليست أكثر من ضجيج ينشز الآذان.

… المقصود مما تقدم أنه لو كان هناك موقف أو مواقف عربية رسمية رادعة لإسرائيل أو قوى وأحزاب عربية قوية وموحدة، ولو لم تنشغل آلة القمع في كبح الحريات وفرض الصمت على الشعوب، لما انفجر وضع الظلم والقهر في غزّة.

هذا ما يجب تذكّره قبل البدء بالحديث عن المقاومة، والنقد يبدأ بالاعتراف بالحقّ المشروع لممارسة المقاومة وبالالتزام الحقيقي بالحرية والتحرّر، لأن التقوقع والاستغراق في المصالح الضيقة والطبقية لن ينقذا العالم العربي من إسرائيل، وممارسة لوم الضحية ليست غير أخلاقية فحسب، بل أيضاً لن ينقذ العالم العربي من الأطماع الإسرائيلية.

مقالات ذات صلة