لا تحلموا بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء في سوريا

د. فيصل القاسم

حرير- رزح الشعب السوري لأكثر من ستين عاماً تحت أعتى نظام عرفه التاريخ الحديث، وفعل بشعبه ما لم يفعله النازيون بأعدائهم، فبينما امتنع هتلر عن استخدام السلاح الكيميائي في حروبه ضد الأعداء الخارجيين، لم يتوان نظام آل الأسد عن استخدام كل الغازات الكيميائية ضد الأطفال في سوريا، ولم تقتصر همجية النظام الساقط على سنوات الثورة الأربع عشرة المنصرمة، بل اقترف قبلها الكثير من المحارق في حماة وحلب وغيرها في ثمانينيات القرن الماضي، مع ذلك لم نسمع سورياً واحداً يطالب بنظام لامركزي أو فيدرالي أو انفصال. وحتى عندما كان النظام وأعوانه يشنون أبشع أنواع الحروب ضد السوريين بالبراميل المتفجرة والقصف الجوي والسلاح الكيميائي وتهجير الملايين وتدمير المدن فوق رؤوس ساكنيها، لم نسمع سورياً واحداً يطالب بتقسيم سوريا، فقد كان الهدف الأول والأخير للأغلبية إسقاط النظام وإعادة بناء سوريا جديدة لكل أبنائها. أما اليوم، فما أن سقط النظام حتى بدأت تتعالى الأصوات لدى البعض لتطبيق نظام لامركزي أو فيدرالي أو حتى الاستقلال في كانتونات خاصة. طبعاً هنا لسنا بوارد الهجوم على النظام الفيدرالي أو اللامركزي، فهو نظام تتبعه دول عظمى ونجح فيها نجاحاً باهراً كما هو الحال في أمريكا وألمانيا والهند والبرازيل وسويسرا وبلجيكا وغيرها، ولا بأس في تطبيقه في بلادنا إذا توفرت شروطه، لكن المشكلة أن العديد من بلادنا العربية لم ينجح في بناء الدولة أولاً، فما بالك أن يتطور إلى فيدراليات ولامركزيات حديثة بجرة قلم. أضف إلى ذلك أن المطالبين بالانفكاك عن الدولة المحطمة والهشة في سوريا ما بعد الثورة لا يفعلون ذلك بهدف التطوير، بل كمحاولة للانفصال المُقنع والتمهيد لتقسيم البلاد إلى كانتونات وإقطاعيات طائفية وعرقية تزيد المأساة السورية بلة. وقد باتت أغلبية السوريين اليوم ترى في محاولات البعض التمرد على الدولة مؤامرة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، كما لو أن السوريين قدموا أكثر من مليون شهيد ومئات الألوف من المفقودين والمعتقلين وملايين المشردين كي يعيدوا انتاج النظام الساقط.

طبعاً لا يمكن هنا أن نقفز فوق المجازر التي ارتكبت بحق الساحل والسويداء، ولا بد من تحقيق العدالة لكل المظلومين والمتضررين الذين تعرضوا لمجازر وحشية كان الجميع بغنى عنها. كما يجب أن نتفهم اليوم مظالم الداعين إلى الحكم اللامركزي أو الذاتي أو الفيدرالي، وألا نتجاهل عذابات المتألمين، لكن لا يمكن أن نعالج كارثة بكوارث جديدة قد تؤدي، فيما لو تشظى البلد وتقسم، إلى ما هو أبشع بكثير، لا سمح الله. ولا ننسى الأهم هنا، وهو أن الأكثرية في سوريا التي تشكل أكثر من ثمانين في المئة من السكان لا يمكن أن تسمح لأحد أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء بعد أن دفعت أثماناً مرعبة لقاء تحررها من النظام الأقلوي الطائفي، وبالتالي دعونا نقول إن مشكلة أي جهة تريد أن تلعب بالنسيج السوري اليوم لم تعد مع نظام أو حكومة، بل مع غالبية السوريين المستعدين أن يحرقوا الأخضر واليابس ولا يسمحوا لأحد بأن يعيدهم إلى غياهب الماضي.

هناك لحظات في تاريخ الشعوب لا تسمح بالعودة. سوريا دخلت واحدة من هذه اللحظات. ما حصل خلال السنوات الماضية – من نزف جماعي، تهجير، دمار، وانكسارات اجتماعية – لم يترك سوى درس واحد واضح: لا عودة إلى الوراء. هذا ليس تهويلاً ولا مبالغة؛ هي قراءة واقعية لروح شعبٍ دفع ثمناً باهظاً ويصرّ اليوم على أن يحمي ما تبقّى من كرامته ومستقبله.

المسألة اليوم ليست مجرد صراع بين أجنحة سياسية أو تقاطعات مصالح خاصة؛ هي معركة بين من يريدون استغلال الشهوة للعودة إلى أساليب الحكم القديمة، وبين غالبية شعبية قررت ألا تسمح بذلك. هذه الغالبية ليست مجرد رقم إحصائي، بل إرادة جماعية مبنية على تجربة مريرة: الناس لم تعد تقبل أن تُصبح وقوداً لصراعاتٍ قد تُعيد البلد إلى مربع العنف والقهر.

الحديث عن أن أي مجموعة – مهما كان حجمها – تستطيع أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، هو وهمٌ خطير. الواقع أن من يفكر في هذا الخيار سيصطدم بوقفةٍ شعبية قوية تُفضّل الاستقرار والعدالة والتحرك نحو بناء مؤسسات قادرة على حماية الجميع وليس انتزاع الحقوق.

الخطأ الفادح أن يظن أحد أن المعركة ستكون ضد حكومةٍ فقط أو ضد طرف سياسي بعينه. المعركة هذه المرة أوسع: هي مع غالبية الشعب السوري التي لن تقبل الانقضاض على إنجازات جماعية، ولن تتهاون مع أي محاولة لإلغاء الحقوق أو استعادة منطق الخوف. من يريد اللعب بمستقبل سوريا سيواجه إرادة شعبية لا تُقهر بسهولة.

دعونا نضع خطاً فاصلاً: الدفاع عن عدم العودة إلى الماضي لا يعني إقصاء أحد. بل يعني بناء دولة قانون ومساءلة عادلة لا انتقامية. من يريد أن يبرّر مصالحه بالحنين إلى زمنٍ ظالم سيفشل لأن المجتمع اليوم لا يتعامل بعاطفة فقط بل بعقل وحسابات مستقبلية. التقدم الحقيقي يولد مؤسسات تضمن حقوق الأغلبية والأقليات على حد سواء – وحماية هذه الحقوق هي التي تمنع أي محاولة لإرجاع عقارب الزمن.

الشرعية الشعبية أهم من أي مشروع رجعي: مشروع لا يحظى بقبول الشعب لن يدوم، والأصوات الجماهيرية الآن لها وزن وقرار. أما الاستقرار فلا يبنى بالقمع: الأمن الحقيقي مبني على عدالة اجتماعية وسيادة قانون حقيقية. ولا بد أن تكون المحاسبة شرطاً للتعايش: دون آليات محاسبة عادلة لا يمكن ضمان عدم تكرار التجاوزات وهذا يعني بناء مؤسسات تمثيلية: أي حل مستدام يبدأ بمؤسسات شفافة وممثلة لجميع مكونات المجتمع، وليس بعودة أشخاص أو ممارسات.

لهذا نقول: افهموا: لا عودة إلى الوراء. ليس لأن أحداً يريد الغلبة بل لأن الشعب السوري، بما يحمله من جراح وتجارب، لن يقبل بتكرار سيناريوهات أدت إلى ما نراه اليوم من خراب ومعاناة. هذه ليست دعوة للتقسيم أو لإقصاء، بل تحذير لمن يراهنون على الماضي: لا تُضيعوا وقتكم – التاريخ والشعب لن يقفا بجانب من يجرّ البلاد إلى الوراء، أو إعادة تسخيرها لمصلحة هذه الفئة أو تلك.

مقالات ذات صلة