
هل هي هدنة من طرف واحد؟
جمال زحالقة
حرير- نفّذ جيش الاحتلال الإسرائيلي سلسلة من الغارات الوحشية على مناطق مختلفة في قطاع غزة، وقع ضحيتها 104 شهداء من بينهم 35 طفلا، إضافة إلى مئات الجرحى، وإلى تدمير واسع للمباني والمرافق. وادّعت إسرائيل أن هذه الغارات جاءت ردّا على «خرق وقف إطلاق النار» من قبل حركة حماس، بعد حادث مقتل جندي إسرائيلي في منطقة رفح الخاضعة بالكامل للسيطرة العسكرية الإسرائيلية المباشرة.
نفت حركة حماس قطعيا أي صلة لها بحادثة مقتل الجندي الإسرائيلي، وجرى تكرار التأكيد، أنه ليس للحركة اتصالات من أي نوع بالموجودين في رفح المعزولة عن المناطق المأهولة في القطاع. ويبدو أن ما حدث هذه المرة، كما في المرة السابقة حين قُتل جنديان إسرائيليان، هو أن الجرافات والآليات الإسرائيلية اقتربت من مكان وجود مقاتلين مختبئين في أحد الأنفاق، فخرجوا منه وأطلقوا النار بقرار ذاتي لا علاقة له بقيادة حركة حماس. إسرائيل تعرف ذلك جيّدا، لكن المحللين العسكريين المقربين من القيادة الأمنية الإسرائيلية، ذهبوا إلى أن «على إسرائيل الرد بقوّة على أي إطلاق نار على قواتها، مهما كان السبب أو المصدر، حتى لو لم يكن ذلك بقرار من حماس».
بعد حادثة مقتل الجندي الإسرائيلي مباشرة، صرح وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس: «الهجوم على جنود الجيش الإسرائيلي في غزة اليوم من قبل حماس، هو اجتياز لخط أحمر وهيج، وسيرد عليه الجيش بقوة كبيرة. إن حماية سلامة وأمن الجنود هي في الصدارة، والمهمة الأولى للجيش في غزة.. حماس ستدفع الثمن مضاعفا على مهاجمة الجنود، وعلى خرق اتفاق إعادة الأسرى الموتى». ولحقه الميجر جنرال إيال زامير رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي قائلا: «إذا لم تف حماس بالتزاماتها، فستتحمّل المسؤولية وستدفع الثمن باهظا. سنواصل العمل بقوة وبإيمان وبمسؤولية، لا تزال تنتظرنا تحديات كثيرة، والحرب لم تنته بعد». وعلى الرغم من الاحتفاء العالمي والإقليمي والمحلي باتفاق «وقف الحرب»، إلّا أنّه لم يخرج إلى الآن أي مسؤول إسرائيلي لينطق بكلمتي «انتهاء الحرب» معا. لم يكن هناك أي بيان رسمي من الحكومة، أو من نتنياهو يشمل إقرارا محدّدا وواضحا بأنّ «الحرب انتهت». العكس هو الصحيح، فقائد الجيش يقول إن «الحرب لم تنته بعد»، ونتنياهو يكرر أن الحرب لن تنتهي حتى يُنزع سلاح حماس، والتحرّكات الإسرائيلية عموما لا تشير إلى أنّ حرب غزة وضعت أوزارها. وليس فقط أن إسرائيل تلوّح باستئناف الحرب في المستقبل غير البعيد، بل هي تخرق الاتفاق وتسعى إلى تطبيع خروقاتها، حتى يتعوّد عليها العالم، كما تعوّد على القتل اليومي في لبنان. وهنا تتطاير الأسئلة: هل هي هدنة من طرف واحد؟ ومن سيلجم الانفلات الإسرائيلي؟ وأين الوسطاء؟ وأين الدول الراعية لاتفاق «الهدنة الدائمة»؟
حسابات نتنياهو
يقوم نتنياهو بفحص وامتحان ردود الفعل على خروقات الاتفاق وعلى الاعتداءات المتكررة على غزة. وقد شجّعته الردود على عملية القصف الواسعة السابقة على التصعيد، وعلى مضاعفة حجم الضحايا. وأن لم يجد من يلجمه، فهو حتما سيواصل هذا النهج التصعيدي، حتى يعتاد العالم عليه. وتتعمد إسرائيل مراكمة أعذار وحجج لتبرير خرقها لإطلاق النار وتأطيره تحت عنوان «الرد على خرق حماس للاتفاق» وبادعاء «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها». حسابات نتنياهو من أهم العوامل المؤثّرة على مصير الهدنة وعلى مآلات «اتفاق ترامب» وهي تشمل:
أولا، التعامل مع الضغوط والقيود الأمريكية من دون الدخول في صدام مع ترامب، وذهب الكثير من وسائل الإعلام الأجنبية والعربية والعبرية إلى القول، إن إسرائيل أصبحت «ولاية أمريكية»، وأن صلاحيات نتنياهو غدت مثل صلاحيات حاكم الولاية. هناك بالطبع مبالغة في هذا التوصيف، لأن نتنياهو يجد الطريقة غير الصعبة لإقناع الإدارة الأمريكية بأن من حقّه «الرد»، وأنه يتحرّك ضمن المساحة المسموح بها أمريكيا، بين الالتزام التام بالهدنة وتعريضها لخطر الانهيار، وهذه المساحة تتسع لسفك دماء الكثيرين من الأبرياء.
ثانيا، انتقال مركز الثقل في حسابات نتنياهو الداخلية، من التركيز على منع انهيار حكومته، وعلى حماية الائتلاف الحاكم إلى التمحور حول الفوز في الانتخابات المقبلة. هذا يجعله أقل حساسية لتصريحات وتهديدات سموتريتش وبن غفير، وأكثر التفاتا إلى زيادة قوة الليكود وبقية الأحزاب الداعمة له. وهذا يدفعه إلى القيام بأعمال عسكرية وسياسية تحظى بإعجاب «الشعب» وليست بالضرورة مقبولة على الثنائي سموتريتش وبن غفير.
ثالثا، لقد كبّل نتنياهو نفسه بالالتزام المتكرر بتحقيق أهداف الحرب، ونزع سلاح حماس، وإقامة حكم في غزة لا هو حماس ولا هو فتح. وهو يسعى جاهدا إلى ترسيخ مبدأ أنه «لا يقبل بالوضع القائم» من خلال عمليات عسكرية متكررة، لتطبيع الخروقات الإسرائيلية من جهة وعدم تطبيع بقاء حماس مسلحة في غزة. لقد وصلت الأمور إلى درجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي ربط مصيره السياسي بنزع سلاح حماس. والخروقات المتواصلة والتهديدات المتكررة، هي رسالة لحشد التأييد في الشارع الإسرائيلي وكذلك لتجهيز للرأي العام العالمي لاستئناف الحرب في موعد لاحق، بذريعة أن حماس ترفض التخلي عن أسلحتها.
رابعا، يأخذ نتنياهو كذلك الاعتبارات الاقتصادية بالحسبان. وهي ولو كانت غير حاسمة حاليا، الّا أنّها حاضرة ومؤثّرة. هو يعرف تماما أن الدخول في أزمة اقتصادية قد يكلّفه خسارة السلطة.
خامسا، لا يستطيع نتنياهو تجاهل إعياء قوات الاحتياط، خاصة في ظل الحديث عن قانون لإعفاء الشباب «الحريديم» من الخدمة العسكرية، وتكاثر الشكاوى من التوزيع غير العادل لعبء الخدمة العسكرية.
وإذا أخذنا هذه الاعتبارات مجتمعة سنجد أن خطر تجديد الحرب جدي، ويتطلب فعلا سياسيا جديا لمنع مثل هذا التطور. هذا ممكن إذا توفّرت إرادة سياسية عربية وإسلامية وأوروبية ضاغطة على إسرائيل وعلى راعيها الأمريكي.
الدور الأمريكي
السلام الأمريكي، الذي يتحدّث عنه دونالد ترامب، يقوم على «حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها» وقتل 35 طفلا في ليلة واحدة ـ كما حدث ليلة الأربعاء الماضي – خلال قصف وحشي حظي بمباركة أمريكية معلنة. صحيح أن الولايات المتحدة تضع قيودا على إسرائيل، لكنها ليست قيودا مكبّلة، بل مرخّاة إلى حد تمكين إسرائيل من ممارسة اعتداءاتها «المحدودة» شرط عدم تعريض الهدنة لخطر التقويض.
لقد أقامت الولايات المتحدة قاعدة عسكرية – سياسية في منطقة قريبة من غزة، لمراقبة التطورات وللتأكّد من بقاء الهدنة. هذا الوجود الأمريكي ليس معدا لحماية وقف إطلاق النار فحسب، بل لتنسيق المصالح الأمريكية والإسرائيلية، ولمساعدة إسرائيل في تحقيق أهدافها، التي في معظمها أهداف مشتركة مع الولايات المتحدة. في ليلة الأربعاء كانت إسرائيل تقصف وتقتل المواطنين والأطفال والمسيّرات الأمريكية تراقب وتتابع عن كثب، وسمحت أمريكا لإسرائيل لمواصلة اعتداءاتها الإجرامية مدة 15 ساعة متتالية. فهل هكذا تحرص الولايات المتحدة على وقف إطلاق النار.
هناك تضخيم كبير لبعض المتغيرات في العلاقة الأمريكية – الإسرائيلية بتوصيفها بأنها انقلاب دراماتيكي، من «ترامب ينطق بما يكتبه نتنياهو» إلى مصادرة القرار الأمني- السياسي من الحكومة الإسرائيلية لصالح ترامب وقراراته، ولعل من أسباب هذا التهويل أن ترامب يتكلّم بلغة تمجيد الذات ونفخ دورها، بما لا يتناسب مع الواقع. وتكمن حقيقة الأمر في مكان ما في الوسط، إذ أن الكثير مما يظهر كإملاءات أمريكية على نتنياهو، هي في أصلها موقف إسرائيلي جرى تصديره إلى الولايات المتحدة، ليخرج كموقف أمريكي «يضطر» نتنياهو إلى قبوله مرغما، ويقي بهذا نفسه من انتقادات حلفائه ومعارضيه، وكذلك حتى يكون الموقف مقبولا على العرب باعتباره يأتي من «الصديق الأمريكي» وليس من «العدو الإسرائيلي». هناك بالطبع خطوط حمر واضحة وضعتها الولايات المتحدة وهي لا تسمح لإسرائيل بتجاوزها، ولكن مساحة المناورة الإسرائيلية واسعة قبل الاقتراب من الخطوط الحمر الأمريكية.
في ظل الجريمة النكراء التي ارتكبها جيش الاحتلال ليلة الأربعاء والتهديد بالمزيد، وأخذا بعين الاعتبار الإنذارات الإسرائيلية بالعودة إلى الحرب إذا لم تتحقق مآربها بالطرق السياسية، فإن التحرك العربي المطلوب فورا هو حشد الضغوط لضمان الالتزام الأمريكي والإسرائيلي بإنهاء الحرب تماما، وعدم السماح لإسرائيل بخرق وقف إطلاق النار. الكل يعرف أن حماس معنية باستمرار الهدنة وملتزمة بها ولن تقدم على خرقها، في المقابل يجب إجبار إسرائيل على التقيّد من جانبها بشروط الهدنة، فهي ليست معدّة لأن تكون هدنة من طرف واحد.



