كاراكاس: هل يعيش نظام مادورو أيامه الأخيرة؟

د. مدى الفاتح

حرير- في التاسع عشر من أغسطس/آب الماضي نشر الجيش الأمريكي ثلاث مدمرات قبالة سواحل فنزويلا، وفي الثاني من سبتمبر/أيلول، تم تنفيذ أول ضربة جوية أمريكية ضد ما تم وصفه بأنه سفينة لنقل المخدرات آتية من فنزويلا. لاحقاً وفي الثالث من هذا الشهر صرّح وزير الحرب الأمريكي قائلاً، إنه أمر بشن ضربة على قارب ينقل المخدرات قبالة السواحل نفسها، أما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فقال، إنه سمح لوكالة الاستخبارات الأمريكية (سي آي إيه) بإجراء ما سماها «عمليات سرية» داخل فنزويلا.

بلغ عدد الغارات الأمريكية حتى الآن حوالي عشر غارات، فيما تجاوز عدد القتلى الأربعين شخصاً. صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية كانت قد قالت، إن بعض المسؤولين صرحوا بشكل خاص لها قائلين، إن الهدف من وراء كل ذلك هو إسقاط الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، أما رسمياً فتكتفي الولايات المتحدة بالقول، إن عملياتها تستهدف ملاحقة عصابات إرهابية لاتينية تعمل في مجال المخدرات، التي قد تكون متوجهة إلى الحدود الأمريكية.

بالأخذ في الاعتبار عوامل مثل نظرة المتحكمين في القرار الدولي لفنزويلا، على أساس أنها بلد فاشل يرأسه زعيم غير شرعي، وهو ما يتوافق مع منح جائزة نوبل للسلام هذا العام للزعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، فإنه لا يمكن استبعاد أن تكون هناك نية أمريكية لإحداث تغيير سياسي، خاصة أن الأمر لا يبدو صعباً في وجود قوة عسكرية أمريكية استثنائية في البحر الكاريبي، تضم أسطول سفن حربية وغواصة نووية وطائرات «إف 35». بدورها رفعت فنزويلا، التي ترى أن الأمر يتجاوز مجرد الحرب على تجار المخدرات، إلى تهديد الأمن القومي، مستوى جاهزيتها العسكرية عبر حدودها، معلنة تأهبها لأي سيناريو، فيما كان الرئيس مادورو يقول باللغة الإنكليزية عبارته، التي تداولتها وكالات الأنباء: «لا لحرب مجنونة». في هذه الأثناء، يملأ الشباب المحبط والغاضب على الأوضاع في بلاده وعلى الرئيس، المتهم بالتلاعب بالانتخابات، جدران المدينة بالعبارات الحانقة ويظهر احتفاء بالتدخل الأمريكي المنتظر، خاصة في ظل أنباء عن اقتراب قاذفات من أجواء العاصمة كراكاس ومحاكاتها لوضع الهجوم والمعركة. هنا يبرز السؤال، الذي يهم الملايين وهو: هل تستعد الولايات المتحدة، التي أعلنت مادورو رئيساً غير شرعي، ومضت لوصفه بأنه «إرهابي مخدرات» و»هارب من العدالة»، فعلاً لتدخل عسكري من أجل الإطاحة بالرجل، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد متابعة ضغط على الطريقة الأمريكية؟ نعني بالطريقة الأمريكية التعويل على مزيج العقوبات الاقتصادية والضغط العسكري والسياسي والحرب النفسية، كعوامل كافية لتفكيك السلطة الحاكمة، أو لإحداث انقلاب، من دون تدخل خارجي مباشر، خاصة أن من المعروف عن ترامب، أنه كان ناقدا للتدخلات الأمريكية السابقة ولعملياتها، التي جعلتها تشارك في قلب أنظمة الحكم في أكثر من بلد.

فرضية خوض حرب عسكرية ضد كاراكاس تتناقض أيضاً مع الصورة، التي يحب الرئيس ترامب أن يظهر بها نفسه كرجل سلام، وكمساهم في خلق تسويات مهمة في أكثر من مكان في العالم. في الوقت ذاته فإنه يصعب التقليل من حجم الضغوط على نظام مادورو، حيث يؤخذ في الاعتبار، على سبيل المثال، أن تلك النعوت، التي تقلل من شأن الزعيم الفنزويلي، وتنزع عنه الشرعية والاحترام، ليست مجرد عبارات يطلقها مسؤولون أمريكيون دون حساب على غرار طريقة ترامب العفوية في إلقاء الكلمات، بل هي اتهامات رسمية دفعت وزارة العدل الأمريكية، التي باتت تتعامل مع مادورو تعاملها مع رئيس لعصابة مخدرات لرفع مكافأة الإدلاء بمعلومات عنه لمبلغ خمسين مليون دولار. ما لم ينتبه له الأمريكيون هو أن هذا المبلغ، الذي يبدو لأول وهلة مغرياً، لن يكون كافياً حتى يقوم رفاق مادورو بالتخلي عنه وتسليمه، خاصة أن بقاء النظام يوفر لهم من الفوائد المادية ما يفوق هذا المبلغ بكثير. مادورو بدا محبطاً بعد تجاهل ترامب عرضه بمنح الولايات المتحدة حصصاً من البترول والمعادن الفنزويلية في سبيل استعادة التطبيع، كما تزايد إحباطه بعد التعاطف البارد، الذي وجده بعد طلبه عقد جلسة لمجلس الأمن. يقلق مادورو اليوم على مستقبل سلطته أكثر من أي وقت مضى، حيث تشير التقارير إلى أنه صار كثير الارتياب، يحيط نفسه بالمدنيين، ويتنقل بين عدة فنادق خشية أن يكون مستهدفاً بواسطة طائرة مسيرة. هناك بعض الأصوات المتعاطفة مع فنزويلا، التي ترى أن ما فعلته الولايات المتحدة، لا يعد فقط انتهاكاً لسيادة بلد مستقل، وإنما للقانون الدولي، خاصة أنه من غير المستبعد، وفق المنطق الحالي، أن يوجّه ترامب، الذي يتعامل مع دول أمريكا اللاتينية كحديقة خلفية، ضربة في داخل فنزويلا تحت مسوغ مكافحة المخدرات نفسه.

يعيد تعامل الرئيس ترامب مع الدول الأضعف إلى أذهان المتعاطفين مع فنزويلا تاريخ الاحتقار الأمريكي للقانون الدولي، فمستندة على قوتها الغاشمة لم تتردد الولايات المتحدة في التعدي على الحدود الكولومبية أيضاً، ما نتج عنه مقتل مواطن كولومبي، وهو ما كان يمكن أن يقود لإعلان حرب في ظروف أخرى.

لم تخلف شكوى الرئيس الكولومبي أي صدى، أما في فنزويلا، ولسوء حظ السيد مادورو، فإن الأصوات الأكبر والأكثر تأثيراً أظهرت تعاطفاً أكثر مع زعيمة المعارضة ماتشادو على حساب نداءاته، التي طالب فيها المجتمع الدولي بالتضامن معه. ماتشادو، التي قادت حملة لانتخاب المرشح البديل إدموندو غونزاليس، الذي يؤمن كثيرون بأنه الفائز الحقيقي في الانتخابات الأخيرة، تبدو مقتنعة بأن نهاية مادورو باتت قريبة، وهو ما تنشره وتؤكده في لقاءاتها الإعلامية. هذه الرؤية متبناة في الإعلام الغربي بشكل كبير، حيث يوجد رهان على إحداث انقسامات في بنية النظام، أو تململ بعض العسكريين، بما يجعلهم ينأون بأنفسهم عن النظام الغارق. في المقابل فإن التعمق في فهم النظام السياسي الفنزويلي والتركيبة الأمنية المبنية على مكافحة أي نزوع نحو التمرد، يجعلنا ندرك أن الأمر لن يكون بهذه السهولة، وأن النظام في كاراكاس يستطيع الصمود تماماً مثل أنظمة أخرى خاضعة منذ عقود للتعامل الاستثنائي والعقوبات المكثفة.

في كل الأحوال فإن على المهتمين التعامل مع فرضية التغيير كاحتمال وارد والنظر في سيناريوهات ما بعد السقوط، التي تتنوع بين خط متفائل، يعتبر أن نهاية النظام تعني بداية تدفق الاستثمارات، ودخول مرحلة من الاستقرار السياسي والاقتصادي، وخط آخر متشائم يرى أن نهاية راديكالية قد تعني الفوضى والدمار والحرب الأهلية، لأن الجهات الكثيرة المستفيدة من الوضع القائم لا ينتظر أن تستسلم ببساطة للتغيير، وأن تتخلى عن مكاسبها بسهولة. من الناحية الدولية فإن سقوط نظام مادورو، خاصة إذا ما جرى استبداله بنظام موال للولايات المتحدة، يعني فقدان أحد أقطاب فريق مواجهة الهيمنة الأمريكية، كما يعني تسهيل وصول الأمريكيين لموارد الطاقة والمعادن، التي تزخر بها المنطقة، ومنع أطراف أخرى كالصين المنافسة من النفاذ إليها. قطع الطريق على الصين يمكن أن يكون أحد أسباب هذا التصعيد، فيكفي أن نذكّر هنا بالإحصائية التي تقول، إن حجم التبادل بين الصين ودول أمريكا اللاتينية خلال العام الماضي كان حوالي 500 مليار دولار، ما يجعلها الشريك الثاني بعد الولايات المتحدة.

مقالات ذات صلة