
سقوط أخلاقي للجنة جائزة نوبل للسلام
علي أنوزلا
حرير- أراد العالم السويدي ألفريد نوبل، قبل أكثر من قرن، أن يجعل من وصيته مشروعاً أخلاقيّاً خالداً يكرّم الذين يساهمون في خير البشرية. كان مخترع الديناميت نوبل قد عايش ثقل المفارقة بين الابتكار العلمي والاستخدام المدمّر لاختراعه، وعندما قرأ ذات يوم نعياً خاطئاً في صحيفة فرنسية تحت عنوان مخيف: “مات تاجر الموت”، الذي جمع ثروته من تمكين البشر على قتل بعضهم بعضاً بسرعة أكبر من أي وقت مضى باختراعه المدمّر، قرّر أن يغيّر مصيره بعد وفاته حتى لا يذكره الناس “تاجراً للموت”، وإنما “صانعاً للخير”. وهكذا وُلدت فكرة جائزة نوبل تعبيراً عن رغبة رجل في أن يُذكر في الآخرين بعد وفاته مع من خدموا الإنسانية، لا من ساهموا في دمارها.
ومنذ تأسيسها في بداية القرن التاسع عشر حمل اسم هذه الجائزة كثيرون قدّموا الكثير للإنسانية في مجالات عملهم، ومنهم سياسيون وأشخاص عاديون صنعوا السلام في بلدانهم أو في مناطق متفرّقة في العالم في انسجام مع فلسفة الجائزة المخصّصة سنوياً لأسماء كان يُفترض أن تجسّد هذه الروح الإنسانية، وأن تعكس الضمير الأخلاقي للعالم، غير أن اللجنة التي تمنح الجائزة المخصصة للسلام أظهرت ميلاً متزايداً إلى توظيفها ضمن حسابات سياسية أو جيوسياسية ضيقة بعيداً عن فلسفة مؤسسها. وهكذا مُنحت “جائزة السلام” في سنوات ماضية لأشخاص ارتبطت أسماؤهم بالحروب أو الانقلابات أو العقوبات الجماعية، كما هنري كيسنجر أو بعض قادة الكيان الإسرائيلي أو رؤساء أميركيين خاضوا حروبا مدمّرة في العالم، آخرهم باراك أوباما الذي شُنت في عهده حروب في أكثر من دولة ذهب ضحيتها آلاف الأبرياء في اليمن وأفغانستان وسورية والعراق، ما يجعل التساؤل مشروعاً حول مدى التزام اللجنة بروح مؤسّسها نوبل الذي أرادها أن تُكافئ “من قدّم للبشرية أكبر فائدة” في مجالات تنفع الناس وتنقد حياتهم.
يكرّس ما جرى الأسبوع الماضي سقوطاً أخلاقيّاً مدوّيّاً للجنة المانحة، ويثير الجدل مجدّداً بشأن فلسفة الجائزة بعد منحها لشخصية سياسية مثيرة للانقسام، وُجّهت إليها اتهاماتٌ بدعم سياسات الحصار والتجويع وتأييد التدخلات العسكرية الخارجية، ما يطرح أكثر من سؤال بشأن المقاييس الأخلاقية التي تعتمدها اللجنة لاختيار مرشّحيها والمتوّجين بجائزتها، بعدما جعلتها من نصيب المعارضة الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو، التي لم تصنع سلاماً، بل وقفت بوضوح في صفّ حرب إبادة تُرتكب أمام أعين العالم في غزّة، وأعلنت بشكل صريح مساندتها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي تتّهمه منظمات حقوقية دولية بارتكاب جرائم حرب في قطاع غزّة، وصدرت في حقه مذكرة بحث دولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وكتبت ذات تغريدة نشرتها على حسابها الرسمي: “اليوم نقف جميعنا، نحن المدافعين عن قيم الغرب، إلى جانب دولة إسرائيل بوصفها الحليف الحقيقي في مجال الحرية”، واصفة إسرائيل التي ارتكب جيشها أكبر إبادة جماعية في العصر الحديث “نموذجاً للديمقراطية والحرية في المنطقة”! وداخل بلادها، اشتهرت صاحبة “نوبل السلام” لهذا العام (2025)، بانخراطها في محاولة الانقلاب على سلطتها الشرعية عام 2002، ودعواتها الصريحة إلى اجتثاث دستورها ومؤسّسات دولتها، وتحريضها العلني على حصار شعبها وتجويعه، واستقوائها بالأجنبي وتشجيعه على التدخل العسكري لإسقاط السلطة المنتخبة في فنزويلا!
ليس هذا السقوط الأخلاقي لجائزة نوبل حادثاً عابراً، فقد تراكمت الانحرافات السياسية للجنة المانحة، التي تحوّلت إلى أداة لتبييض السلوكيات الغربية المزدوجة: تُكافئ من يصفّق للآلة الحربية الإمبريالية والصهيونية، وتتجاهل من يواجهها بالحقائق والضمير. فكيف لجائزة “السلام” أن تغمض عينيها عن أسماء كان الأجدر أن تتوّج بها، مثل فرانشيسكا ألبانيز، المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة التي ظلّت صوت الضحايا في غزة عامين، ودافعت بشجاعة نادرة عن القانون الدولي في وجه جوقة التحريض والتهديدات؟ وكيف تُستبعد المناضلة الشابة غريتا تونبرغ، التي جعلت من العدالة المناخية معركة إنسانية شاملة ضد منطق الاستغلال والحروب، لمجرّد أنها تجرأت على تحويل بوصلة نضالها نحو مساندة أهل غزّة المحاصرين والمُجوَّعين، ووجهت شراع قاربها مرّتين راكبة أمواج البحر وأهواله مغامرة بحياتها لكسر حصار الظلم والصمت والتواطؤ الذي أباد عشرات آلاف من الغزّيين الأبرياء أغلبهم من النساء والأطفال؟
هذا السقوط المدوّي للجائزة لا يحرمها فقط من الأخلاق، بل من المصداقية أيضاً، إذ غابت عنها منظّمات إنسانية وقف موظفوها في الميدان يُنقذون أرواحاً تحت القصف، كما غابت عنها مؤسّسات قضائية دولية تتعرّض اليوم للتهديد، لأنها فكرت فقط في تجريم مجرمي الحرب الإسرائيليين، مثل المحكمة الجنائية الدولية، التي تُعاقب واشنطن قضاتها فقط لأنهم حاولوا تطبيق القانون الدولي على الجميع بلا استثناء، ولم تجد لها مكاناً على لائحة الجائزة بين المرشّحين!
ورغم أن جائزة نوبل كانت ولا تزال رمزاً عالميّاً للتميز العلمي والأخلاقي، فإن انحراف لجنة صِنْفِها المخصّص للسلام عن قيمها الأصلية، خصوصاً في ظل تجاهلها أصواتاً مدافعة عن العدالة الإنسانية والقانون الدولي، يجعل قراراتها المعلنة أخيراً تطرح سؤالاً جوهريّاً عن التوازن بين الأخلاق والسياسة: هل ما زالت الجائزة وفية لرسالتها الأصلية في تكريم من يزرع الأمل في الإنسانية، أم أنها فقدت بوصلة القيم التي قامت عليها، وتحوّلت إلى مرآةٍ لعالمٍ مزدوج المعايير ومختلّ الموازين؟
المفارقة الصارخة أن جائزة تُمنح باسم السلام أصبحت تُمنح باسم أحقر أنواع السياسة، فبدل أن تُكرّم من يصنع الخير، باتت تكافئ من يزرع الاصطفاف والانقسام، ويحرّض من أجل القتل والتجويع، ويساند العقوبات وحصار الشعوب، ويدعو إلى الحروب والغزوات. وبدل أن تُعيد الجائزة الاعتبار لضحايا الظلم والتعسف والاضطهاد، أصبحت أداة لطمس صوت المظلومين والمضطهدين وتزيين وجه القتلة والجلادين والمحرضين ونافثي الحقد ومدمني الانتقام.
لا ينتقص النقد من مكانة الجائزة وصاحبها، بل يعيد التذكير بفلسفة مؤسّسها الذي أراد أن يترك أثرَه صانع خير للبشرية، وربما تكون العودة إلى تلك الفلسفة الطريق الصواب لإنقاذ الجائزة من الانزلاق إلى ما حذّر منه ألفرد نوبل نفسه: أن يُذكر يوماً “تاجراً للموت”! وربما آن الأوان لأن يُطرح السؤال بصوتٍ عالٍ: هل تستحقّ جائزته بعد اليوم أن تُسمّى “جائزة للسلام”؟