فضيحة الجائزة… لا نُبل ولا سلام

ابراهيم فريحات

حرير- يبدو أن اللجنة النرويجية لجائزة نوبل للسلام لم تعُد تبحث عن السلام بقدر ما تبحث عمّن يُجيد تسويقه وفق النموذج الغربي، ففي قرارها منح الجائزة للعام 2025 للسياسية الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو، لم تكرّم نضالاً إنسانياً أو مبادرةً لحلّ نزاع، بل احتفت برمزٍ سياسي يعكس رؤيتها للعالم: ليبرالية غربية، معاداة للاشتراكية، وتماهٍ مع سياسات واشنطن في أميركا اللاتينية. من حقّ اللجنة أن تختار من تشاء، ولكن ليس من حقّها أن تحتكر تعريف السلام والنبل الإنساني. وحين تُختزل هذه القيم الكونية في أيديولوجيا واحدة، ويُقاس “السلام” بمقدار قربه من واشنطن أو بروكسل، نكون أمام عملية اختطافٍ أخلاقيٍّ ومعنويٍّ لمعنى الجائزة نفسها، فالسلام (كما العدالة) ليس اختراعاً غربياً، بل قيمة إنسانية مشتركة.

ولكن لجنة نوبل، في سلوكها المتكرّر، تصرّ على نسب هذه القيمة لنفسها ولمنظومة فكرية محدّدة، وتوزّع صكوك “النبل” على من يخدم تلك المنظومة، وتحجبها عمّن يعارضها. وهذا انحراف واضح عن وصيّة مؤسّس الجائزة، ألفرد نوبل، الذي أوصى بأن تُمنح الجائزة لمن “قدّم أعظم الفوائد للبشرية”، لا لمن قدّم أعظم الخدمات للأيديولوجيا الغربية. وقد وهب الكيميائي السويدي، نوبل، ثروته للعلم والإنسانية، وما كان ليرضى أن تتحوّل جائزته وسيلةً لتلميع وجوه سياسية أو تبرير تدخّلات عسكرية. لكن هذا بالضبط ما حدث مرّاتٍ، من البورمية أونغ سان سو تشي التي حوّلتها اللجنة أيقونةً للديمقراطية قبل أن يتكشّف تورّطها في التستر على جرائم الإبادة ضدّ الروهينغا، إلى باراك أوباما الذي مُنح الجائزة قبل أن يجفّ حبر خطاب تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة، ثمّ واصل استخدام الطائرات في حروب بلا نهاية.

واليوم؛ تأتي ماريا كورينا ماتشادو لتُعيد المشهد نفسه، وبصورة أكثر فجاجة. فهذه السياسية اليمينية، التي لم تُخفِ عداءها لخصومها السياسيين في الداخل، تورّطت، بحسب وثائق مسرّبة عام 2018، في تنسيقٍ مع إسرائيل لتدخّل عسكري في فنزويلا، أي لقصف بلدها، كما وقّعت اتفاقيات تعاونٍ مع حزب الليكود بشأن الأمن والسياسة والأيديولوجيا، وأعلنت دعمها الصريح الحرب الإسرائيلية على غزّة، متعهّدة بنقل السفارة الفنزويلية إلى القدس، وكتبت في تغريدة لها: “كلنا، المدافعون عن القيم الغربية، نقف إلى جانب إسرائيل”.

أيُّ سلامٍ هذا الذي يستند إلى تحالفاتٍ مع قادة حروبٍ وإبادات؟ وأيُّ نبلٍ فيمّن يستدعي التدخّل الخارجي في بلاده؟

ولكن الفضيحة لا تتوقّف هنا، إذ يُروى أن ماشادو نفسها فوجئت بفوزها، قبل أن تُهدي الجائزة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي بنى خطابه السياسي على العنصرية وكراهية المهاجرين. ومع ذلك، تصرّ اللجنة على أنها تكرّم “مساهمةً في تعزيز السلام العالمي” (!).

ما يحدُث اليوم تسييس صارخ لجائزة يفترض أنها فوق السياسة، فالجائزة التي أنشئت لتكريم من يخدم الإنسانية باتت تُستخدم لتجميل وجه الغرب السياسي، وإعادة إنتاج سرديةٍ تعتبر أن “القيم الغربية” معيار الإنسانية جمعاء، لم يعد هذا التناقض الأخلاقي خافياً، ويستحقّ أن يُطرح في المحاكم الأخلاقية والقانونية معاً.

وبناءً على ما تقدّم، لن يكون من المُستغرَب أن تُواجِه لجنة جائزة نوبل ملاحقاتٍ قانونية من مؤسّساتٍ دولية بتهمٍ تتعلّق بممارسة الخداع على المستوى العالمي، إذ تتخفّى اللجنة خلف شعار “السلام” قيمةً نبيلةً، بينما تُمرّر من خلاله أجنداتٍ سياسية، وتُدعم منظومة القيم الغربية على حساب القيم الإنسانية المشتركة. إنها تمارس، في جوهر الأمر، احتكاراً أخلاقياً للسلام، فتصادر حقّ البشرية في تعريفه وتحديد معاييره، وتحوّله من مفهومٍ عالمي جامع أداةً انتقائيةً تُستخدم لتصنيف الشعوب والأنظمة. والأسوأ أنّها تُقدّم دعماً مادّياً، بقيمة الجائزة التي تبلغ مليون دولار، لمن يروّجون التدخّلات العسكرية ويقوّضون السلم الأهلي، بل ويتحالفون مع شخصياتٍ متّهمةٍ بجرائم إبادة جماعية أمام العدالة الدولية.

في كل الأحوال، لم يعد الصمت مقبولاً، فلا مفرّ من أن يتحمّل المجتمع المدني العالمي مسؤوليّته في الضغط لإخضاع لجنة جائزة نوبل للمساءلة (accountability)، والتدقيق في مدى التزامها المعايير ذاتها التي تعلنها أسساً لاختيار الفائزين بالجائزة، فحين تتخلّى اللجنة عن هذه المعايير، تضع نفسها أمام شبهاتٍ تتراوح بين انعدام المهنية والفساد الأخلاقي والتضليل المتعمّد. ولذلك؛ بات من الضروري للجنة النرويجية لجائزة نوبل للسّلام القيام بإصلاحات عميقة، مثل تأسيس هيئة قانونية مستقلّة تتولّى الرقابة على أعمال اللجنة، وتُخضع قراراتها للتدقيق والشفافية، خصوصاً بعد تكرار حالات أثارت جدلاً واسعاً، بل حتّى فضائح أخلاقية مثل منح الجائزة لأونغ سان سو تشي، رغم تستّرها على جرائم الإبادة، وباراك أوباما الذي نالها وسط شبه إجماع على عدم استحقاقه لها، وهنري كيسنجر المتورّط في دعم قصف فيتنام وكمبوديا. وها هي اليوم تُمنح للسيدة كورينا ماتشادو، اليمينية المتحالفة مع اليمين الترامبي، والمتطرّفة في مواقفها. والمساءلة هنا ليست ترفاً، بل ضرورة أخلاقية إذا أردنا للجائزة أن تستعيد معناها الأصلي، فحين تتحوّل مكافأةً للموالين للغرب، بدلاً من أن تكون تكريماً للإنسانية جمعاء، تفقد اسمها ومكانتها ورمزيتها.

لقد آن الأوان لإعادة تعريف النبل الحقيقي: ليس مَن يخدم مصالح الغرب، بل من يحمي كرامة الإنسان، أيّاً كان موقعه.

مقالات ذات صلة