سردية الدولة الفلسطينية في ظل الخداع الغربي

لطفي العبيدي

حرير- من فلسطين إلى أوكرانيا، تركيز الرئيس الأمريكي على الهيمنة التصعيدية يرتبط بتحويل الحروب في ذهن القيادة السياسية، إلى مشاريع أمريكية ضخمة لجني الأرباح. وإذا كانت القوة هي القدرة على تجاوز حدود الإمكان الموضوعي والتأثير في سلوك الآخرين، فإن ما حصل في غزة كان عكس ذلك تماما. ومأساة «عملية السلام» الإسرائيلية الفلسطينية التي ادعت أمريكا أنها تقودها، ليست خطأ واشنطن وحدها، لكن يصعب تخيّل فجوة أوسع بين القدرة والإنجاز، وبين الوهم والخداع.

الخطوة التالية لنتنياهو هي تفريغ قطاع غزة من سكانه، يليها على الأرجح ضم شبه كامل للضفة الغربية. نتنياهو في منتصف مرحلة ما قبل النهاية، حيث يسعى إلى حشر مئات آلاف الفلسطينيين في غزة داخل ما يسمونه «مدينة إنسانية» على الحدود مع مصر. ضربته لقطر التي انخرطت في وساطة لوقف الحرب، كانت في جوهرها استهدافا لما تبقّى من محادثات وقف إطلاق النار، ما يقدّم دليلا إضافيا على أنه غير مبال بمصير الرهائن الإسرائيليين الباقين.

الشيء الوحيد الذي يهتمّ به نتنياهو هو بقاؤه السياسي، وذلك يعني الحفاظ على دعم شركائه اليمينيين المتطرفين القوميين والدينيين، وعلى رأسهم إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. أهدافهم التوسعية «من النهر إلى البحر» هي بالتالي أهدافه. بالنسبة لترامب الذي لا يعرف ما يريد أن يفعل، يطرح هذا معضلة متصاعدة حسب «فايننشال تايمز». العام الماضي منحت الولايات المتحدة إسرائيل 12.6 مليار دولار كمساعدات عسكرية، أي أكثر بكثير من 3.8 مليار سنويا التي تتلقاها عادة. فاتورة «تطهير غزة» وتمويل مخيّماتها ستكون أعلى بكثير. لقد سخر دونالد ترامب من العالم بفيديوهات أنشأها عبر الذكاء الاصطناعي، يصوّر فيها غزة وكأنّها «ريفييرا الشرق الأوسط»، لكنّه حتى هو يدرك أن تكلفة مثل هذا الوهم ستكون باهظة جدا. كثيرا ما تباهى ترامب بأنّ اتفاقات إبراهام هي من أعظم إنجازاته. غير أن تطهير نتنياهو العرقي سيعرّض للخطر اعتراف الإمارات وغيرها بإسرائيل، وينسف أي أمل متبقٍّ في تطبيع سعودي. كلّ هذا يشير إلى أنه حتى وعود تدفق المليارات النفطية لدعم سياسة ترامب «الاستثمار في أمريكا» لم تكن كافية لتغيير موقفه تجاه إسرائيل. وكغيرهم حول العالم، يحذر القادة العرب من الضغط أكثر من اللازم، خوفا من استفزاز رئيس لا يمكن التنبؤ بتصرفاته. والسؤال الآن هو: هل ستؤدي ضربات إسرائيل على الدوحة إلى تصلّب المواقف العربية، وبلورة رد جماعي أقوى على أفعال إسرائيل في المستقبل؟ من المبكر القول أو حسم أي شيء حيال هذا.

في مرحلة ما، تحوّلت الولايات المتحدة في تعاملها مع الشرق الأوسط إلى ما يشبه «ديانة التفاؤل»: تتبنى أيديولوجيا التمنّي، تُكرّر كلمات فارغة، وتطلق مزاعم تُكذبها الوقائع بسهولة حسب «فورين أفيرز». يصعب تحديد تاريخ دقيق لهذه اللحظة، لكن يسهل تبيان السبب المرجّح. فقد أصبح هذا السلوك عادة متجذّرة لا تنفصل عن تآكل النفوذ الأمريكي وتراجع قدرته. ولم يكن الخداع وتكرار الوهم جديدا، جذوره تعود إلى ما قبل حرب غزة، وتمتد إلى ما يتجاوز الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لقد تحوّل إلى عادة على مدى عقود، حيث أوهمت الولايات المتحدة العالم بموقفها من الصراع، متظاهرة بأنها وسيط بينما هي في الحقيقة طرف منحاز. أوهمت حين صاغت ما سُمّي «عملية السلام» التي أسهمت أكثر في ترسيخ الوضع القائم بدلا من تغييره. وأوهمت حين ادّعت أن سياساتها الأوسع في الشرق الأوسط تهدف إلى تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان. وأوهمت حين اعتبرت إخفاقاتها نجاحات. ولكن الإخفاقات الأمريكية المتكررة لم تؤدِّ إلى محاسبة شخصية أو مؤسسة. من بوش الابن إلى ترامب ليس هناك أي مراجعة جدّية في السياسة الخارجية المتعلقة بالمنطقة. وحتى الآن تُظهر الولايات المتحدة جهلا مدهشا بدروس تاريخها في الشرق الأوسط، وأثبتت أنها لا تُحسن إدارة السلام. الأكثر إرباكا من الأخطاء أو تكرارها هو عادة المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين في ترديد الأكاذيب حتى بعد إدراكهم أنها مكشوفة، بل حتى بعد علمهم بأن الآخرين يدركون ذلك. أصبحت مسألة بديهية مع سجلّهم البائس في انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم في حق الشعوب. لقد شكّلت هذه الأكاذيب غطاء لسياسة مكّنت إسرائيل من شنّ هجماتها الضارية على غزة، في الوقت الذي صُوّر فيه أيّ تحسّن ضئيل وعابر في أوضاع القطاع على أنّه ثمرة للإنسانية الأمريكية وإصرارها على تحقيق السلام. كان عهد ترامب قد شهد تصعيدا في وحشية إسرائيل، لكن الأكاذيب التي سبقته هي التي مهّدت الطريق. لقد ساعدت في تطبيع القتل العشوائي، واستهداف المستشفيات والمدارس والمساجد، واستخدام الغذاء كسلاح، والاعتماد المستمر على السلاح الأمريكي في القتل والتدمير، دون مراعاة للقوانين الدولية والمرجعيات.

فكرة تحويل غزة إلى مشروع استثماري مربح، تؤكّد الارتباط الوثيق بين الحرب وكسب المال. وكذلك أوكرانيا، التي أصبحت أداة لغسيل الأموال الأمريكية. هذا أشار إلى نوايا ترامب المستقبلية: لا هياكل، لا إشارات، لا التزام حقيقي بالسلام. بل يرى الروس أن إدارة ترامب تميل إلى العكس، أي مع الخطط الأوروبية لإعادة تسليح أوكرانيا. العدوان المشترك من إسرائيل والولايات المتحدة ضد إيران وضربة قطر، هي أحداث من الجوهر الأيديولوجي نفسه، تؤكد السطوة الغالبة لأصحاب أولوية إسرائيل، ولأولئك المحيطين بترامب، الذين يُغذّون أحقادا قديمة ضد روسيا وضد العرب والمسلمين ذات جذور دينية مشابهة. المفارقة في كل ذلك أن عجز ترامب، أو عدم رغبته في كبح نتنياهو وإنهاء الحرب في غزة، أطاح بالفرصة الضئيلة لإبرام الصفقة التي يريدها أكثر من أي شيء آخر وهي اعتراف السعودية بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها بشكل رسمي، وتمهيد الطريق لمن تبقى من العرب وفرض الأمر الواقع.

إسرائيل تُنفذ نكبة ثانية، تطهيرا عرقيا وإبادة جماعية، في غزة والضفة الغربية، بينما يعجز الجميع عن إيقافها، وينتظرون من الإدارة الأمريكية التي تُموّلها بالسلاح أن تُغير نهجها تجاه تل أبيب. هيمنة هذه السياسة المتمحورة حول إسرائيل قد شطرت قاعدة ترامب الشعبية، وعلى نطاق أوسع، ألحقت ضررا دائما بالقوة الناعمة الأمريكية ومصداقيتها الدبلوماسية. وبينما تتحول إسرائيل إلى دولة منبوذة على المستوى الدولي، وتواجه مقاومة غير مسبوقة في التاريخ لحكمها في غزة، وتتوالى الاعترافات بدولة فلسطين، يمكن أن ينمو تحالف تكتيكي في الولايات المتحدة بين عناصر أقصى اليمين وأقصى اليسار، التي تسعى إلى تقليص الدعم الأمريكي لإسرائيل، خاصة مع اتساع الخلافات داخل قاعدة ترامب بشأن إسرائيل.

مقالات ذات صلة