
نتنياهو المُعجب بإسبارطة
توفيق شومان
حرير- ألقى رئيس حكومة دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو خطاباً في 15 سبتمبر/ أيلول الحالي، كشف فيه عن محاولات من دول مختلفة، في مقدمتها قطر، لفرض حصار على إسرائيل، بما يتعين عليها أن تزاوج بين أثينا وإسبارطة العظمى. ولما كان التوفيق بين المثالين يشبه خطل المضارعة بين غرفة السجن وساحة الملعب، كما كتب الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل في”تاريخ الفلسفة الغربية”، فقد أقام المعلقون وأصحاب الرأي في الصحافة العبرية الدنيا ولم يقعدوها بعد، لعلمهم أن نتنياهو حين يستحضر إسبارطة في خطابه إنما يريدها دون غيرها نموذجاً يتسلّط رأس هرمه على قاعدته ومجتمعه لا يعرف إلا المعارك والحروب.
أفاد المؤرّخ الإغريقي هيرودوتس بأن ملوك اسبارطة كانوا يختصون بمنصب الكاهن الأعلى، ولهم سلطة إعلان الحرب على أي بلد من دون معارضة أحد من مواطنيهم، ومن صلاحياتهم تعيين العرافين والتصرّف بالقوانين، بما فيها حقّ الولاية على الفتيات اللواتي توفّي آباؤهن، ولم يكنّ مخطوبات. أما أرسطو فقد عاب دستور إسبارطة كله. وعلى ما جاء في كتابه “السياسيات”، أدّت قوة إسبارطة إلى أن تذهب بها إلى عدم استمتاعها بالسلام، ولم تكن ترفع من الرياضات إلا الرياضات القتالية، ومع أن الفتوحات يجب أن تكون ثمرة الفضيلة، فقد أعلى الإسبارطيون من شأن الفتوحات، وجعلوها أسمى من الفضيلة، ناهيك أن سياستهم المالية كانت فاسدة جدّاً، وتلك حالة القضاة أيضا، المرتشون والفاسدون. ويأخذ برتراند راسل بشهادة هيرودوتس عن آفات أهل إسبارطة، فينقل عنه قوله إن المثير للدهشة أنه لم يكن بينهم شخص واحد يمتنع عن الرشوة، كما أن جزءاً أساسيّاً من التربية الإسبارطية كان يرتكز على تعليم الفتيان فنون السرقة، ويعقابون إذا ضُبطوا، لا على فعل السرقة، بل على سوء تدبيرهم.
وفي المجتمع الإسبارطي، كانت السلامة الصحية للمولود تُفحص بعد وضعه مباشرة، على ما يُخبر بلوتارك (ت: 120م) في “تاريخ أباطرة الإغريق وفلاسفتهم”، فإذا كان المولود سوي الصحّة والبدن، يؤخذ قرارٌ بتنشئته وتربيته. وفي حال كان ضعيف البنية والتركيب، ولا تظهر علامات المتانة عليه، يُرمى في الغور، إذ لا مصلحة للدولة والمجتمع أن يعيش مولود كذاك، فيكون نصيبه الموت ومغادرة فجر الحياة، وسبب ذلك ان الفرد الإسبارطي تمحورت حياته حول الحرب، ولا مهمّة غيرها في الحياة. وتلك المهمة يتحدث عنها العلامة أرنولد توينبي في “بحث في التاريخ”، فيرى ميزة النظام الإسبارطي إهمالها متطلبات الطبيعة البشرية إهمالاً كبيراً، فالعبيد يزرعون والإسبارطيون يتفرّغون لفنون الحرب، وذاك النظام فرض على الطفل الإسبارطي أن يدخل في دورات التدريب العسكري منذ السابعة من عمره، ولا توجد حالات إعفاء من الخدمة، وحتى الفتيات كُنً يُدربن كالفتيان. وكان على الإسبارطي أن يخدم 53 سنة في الجيش، ما أنتج منظومة قيمية خاضعة بالمطلق للروح العسكرية، وإلى مستوىً بلغت فيه الأم الإسبارطية أن توصي ابنها الذاهب إلى الحرب بهذا القول “عُد بدرعِك أو محمولا عليه”، مثلما يكتب شيخ المؤرخين وول ديورانت في “قصّة الحضارة”.
ومن التوصيفات اللصيقة بإسبارطة ما يتحدّث عنها توينبي في كتابه “تاريخ الحضارة الهيلينية”، ففي حقبات محدّدة كانت تتملص من التزاماتها كلما استطاعت إلى ذلك سبيلا. أما تاريخها فهزيل وبائس، حسب قراءته، ولا يبتعد ديورانت عن تلك القراءة، ويقترب من القول إن إسبارطة كانت أمّة بلا تاريخ، وحين سقطت ما من أمة حزنت عليها، ولا نكاد نجد اليوم نقشاً واحداً أو عموداً ملقى على الأرض، يُعلن للعالم أن اليونانيين كانوا في يوم يسكنون هذا المكان.
وقد كتب آمنون إبراموفيتش على موقع القناة 12 الإسرائيلية إن “نتنياهو قال إن إسرائيل ستكون إسبارطة العظمى، ولمن لا يعرف، لقد عزلت إسبارطة نفسها وحاربت حتى فنائها، سقطت منها أعداد هائلة من القتلى والجرحى وأصبح سكانها فقراء، استطاع مغادرتها من استطاع، وتبنت سياسة مسيانية، وسعت إلى النصر المطلق، فضعُفت وهُزمت “وفي اليوم التالي، كتب يوسي فيرتر في صحيفة هآرتس متهماً نتنياهو بجنون العظمة “وقد يكون في فيلمه أمل بأن يشبه خطاب إسبارطة العظمى خطاب ونستون تشرشل، الدم والعرق والدموع. ومثل حالات كثيرة خاب أمله، فخطاب نتنياهو عزّز الفهم المنتشر بين الجمهور بأن الخطر الحقيقي على وجود الدولة، ليس في الخارج، فالخطر في الداخل وله عنوان واحد هو رئيس الحكومة”.
وعلى النسق نفسه، كتب عاموس هرئيل في صحيفة هآرتس أن “نتنياهو ارتكب خطأ فادحا في خطابه الإسبارطي، فهبطت البورصة، و باغتته ردّات أفعال رجال الاقتصاد والمال. الصورة مقلقة للغاية، والرجل الذي يقود إسرائيل إلى تعميق الحرب في قطاع غزّة زعيم فاشل ومعزول ومطارد، ومصمّم على التمسّك بالسلطة بكل الوسائل”. وكتب تسفي برئيل في الصحيفة نفسها 18 سبتمبر/ أيلول الجتري، مستهزئا بنتنياهو “الزعيم الوطني الذي قارن إسرائيل بإسبارطة، وهي نموذج قلده هتلر وموسوليني، وإسبارطة التي تم تدميرها وخلفت إرثاً رمزياً بُعثت الآن للحياة في إسرائيل”، لكن إسبارطة كما في مقالة بني درور في “يديعوت أحرونوت” انهارت، لأنها عاشت على أسنّة الرماح وعلى حدود السيوف.
وبالفعل، هذا ما تقوم به دولة الاحتلال في غزّة والضفة الغربية ولبنان وسورية واليمن وقطر وإيران، وربما دول أخرى … هكذا كانت إسبارطة تُعلن الحروب وتخوضها في كل الاتجاهات، وهكذا انهارت … الإسرائيليون يقولون ذلك.