التطبيع مع الاحتلال إذ يتسلل إلى عقولنا

محمد عايش

حرير- أغرب وأخطر ما نلمسه في الشارع العربي حالياً هو، أن التطبيع مع إسرائيل أصبح موضوعاً قابلاً للنقاش ومحلاً للجدل، وبات مقبولاً لدى البعض، بعد أن كان الناس يتعاملون معه حتى سنوات قليلة ماضية على أنه أبشع أشكال الخيانة.

أن يصبح التطبيع موضوعاً للنقاش ومحلاً للجدل، يعني أن المزاج العام في العالم العربي، يُسجل تحولاً بالغ الأهمية، وأهم ما في هذا التحول هو أن الاحتلال نجح في تطبيع نفسه مع بعض أبناء شعوبنا العربية، ونجح في اختراقنا، ونجح في تسويق نفسه على أنه وجهة نظر قابلة للنقاش، وهذا ربما يكون أخطر ما أنتجته هذه المرحلة، في الوقت الذي تقوم فيه إسرائيل بتنفيذ حرب إبادة غير مسبوقة تستهدف قطاع غزة.

الأسبوع الماضي عقد وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، لقاء مع وفد إسرائيلي في العاصمة الفرنسية باريس، وهو لقاء تطبيعي بامتياز، وكان مثل هذا اللقاء حتى الأمس القريب يُعتبر أسوأ أشكال التطبيع، حيث إن الجلوس المباشر مع الإسرائيلي لأي سبب كان، ولأي غاية كانت، يُشكل عملاً تطبيعياً تتم إدانته وتجريمه، والمفارقة طبعاً أن دمشق تحتضن المقر الرئيس لمكتب المقاطعة العربية التابع للجامعة العربية، أي أنها الدولة التي يُفترض أنها مركز مناهضة التطبيع في المنطقة، والمسؤولة عن إبقاء إسرائيل معزولة عن محيطها العربي.

اللافت أيضاً في لقاء الشيباني بالوفد الإسرائيلي، هو أن وكالة الأنباء السورية الرسمية «سانا» هي التي نشرت الخبر، حيث تعودنا طيلة العقود الماضية أن المسؤولين العرب، الذين يخجلون من شعوبهم يعقدون اللقاءات سراً مع الاحتلال ويشتمونه في العلن، بل حتى أخبار اللقاءات التطبيعية لا تصلنا إلا عبر تسريبات الصحافة العبرية، بينما الآن يُسارع النظام ذاته لفضح نفسه والإعلان عن لقاءاته التطبيعية مع الاحتلال، وهذا له دلالات مهمة أبرزها، أنه يجري التمهيد لإقامة علاقات رسمية مع إسرائيل، وربما الانضمام لاتفاقات أبراهام التطبيعية، أو التوصل الى اتفاق سلام يرمي سوريا في الحضن الإسرائيلي، بعد أن ظلت لعقود عصية على هذا المسار.

ثمة مفارقة أخرى أيضاً مهمة في اللقاء التطبيعي، الذي عقده الشيباني مع الوفد الإسرائيلي وهو، أن هذا اللقاء ينعقد في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل قصفها بين الحين والآخر للأراضي السورية، فضلاً عن أن إسرائيل احتلت في ديسمبر/كانون الأول الماضي أراضي سورية، إضافية (غير المحتلة سابقاً) تزيد مساحتها عن مساحة قطاع غزة كاملاً، ومع ذلك كله لم تكن مسألة الأراضي المحتلة، ولا العودة إلى خطوط الهدنة (خط عام 1974) جزءاً من أي مطالبة سورية، ولا موضوعاً للتفاوض، إضافة إلى ما سبق، فقد كان بمقدور دمشق أن تجري أي محادثات أو مفاوضات مع الاحتلال بشكل غير مباشر، عبر الوسطاء مثل قطر أو تركيا أو مصر، وهي دول لطالما قدمت الدعم للنظام السوري الجديد، كما إنها لم تكن لترفض أن تلعب هذا الدور، لكنَّ نظام الشرع فضَّل الجلوس المباشر مع الإسرائيليين لغاية في نفسه على الأرجح.

المؤسف في كل هذا أن هناك من يدافع عن عقد اللقاءات مع الإسرائيليين، وهناك آخرون لا يرون أن هذا تطبيعٌ يستحق الإدانة، بل الكارثة أن بعض الاسلاميين ذهبوا الى إجراء مقارنات باستخدام النصوص الدينية والأحداث التاريخية، من أجل التوصل الى تبرير هذه اللقاءات التطبيعية، وهم أنفسهم الذين كانوا يدينون مصر والأردن على إبرامهما اتفاقات سلام مع تل أبيب، وكأنَّ ما كان حراماً قبل سنوات أصبح حلالاً اليوم.. أو كأن الحرام يُصبح حلالا إذا تغير الفاعل!

ما يحدث في المنطقة العربية أمر مؤسف، والسباق العربي الرسمي نحو التطبيع مع اسرائيل غير مسبوق، وحتى الأمس القريب كان من يتورط في إقامة علاقات وعقد لقاءات مع المحتل يُنظر اليه على أنه جلب العار لنفسه ولبلده، بل إنَّ اللاعبين في المباريات والمسابقات الدولية، كانوا وما زالوا يرفضون الوقوف أمام الإسرائيلي لأن مجرد اللعب معه يُشكل اعترافاً ضمنياً به، فكيف بعقد اللقاءات على أعلى المستويات السياسية؟

مقالات ذات صلة