
نتنياهو وحلم المستوطنة الكبرى
سامح المحاريق
حرير- شهدت إسرائيل موجة هجرة واسعة من اليهود الروس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ليغير المهاجرون من شكل المجتمع وتنتهي معادلات سياسية كانت قائمة على امتداد العقود التي سبقت ذلك، ويبدو أن هذه الفئات شعرت بالغبن داخل المدن الإسرائيلية فاضطر كثيرٌ منهم للعمل في وظائف أدنى من مؤهلاتهم، وتركز وجود فئات أقل تعليما وتأهيلا في المستوطنات في الضفة الغربية، لأسباب مادية تتعلق بتكلفة السكن والمعيشة، ومعهم تغيرت ذهنية المستوطنة الجشعة تجاه المزيد من الأرض، لأنها محدودة بموارد داخل أسوارها، وبشيء من الحيز الأمني ومحاطة بوسط عدائي تشكله القرى العربية، ومهما تمت هندسة الطرقات لمصلحة المستوطنين على حساب تنغيص حياة الفلسطينيين، فالاحتكاك قائم ومحتمل، وبذلك تلاقت نوازع الجشع والرغبة في التوسع لديهم، مع الشعور الدائم بالتهديد والهوس الأمني المتصل.
يشكل المستوطنون نحو 10% من الإسرائيليين، إلا أنهم كتلة نشيطة انتخابيا، فتصل نسبة مشاركتهم إلى قرابة 80% في الانتخابات، مقابل نسب أقل لدى فئات أخرى، وتأتي أدناها لدى العلمانيين، الذين كانوا يشكلون القوة الدافعة لليسار الإسرائيلي المتغيب تقريبا عن التأثير، وبذلك مخاطبة المستوطنين باللغة التي يفهمونها، ومداعبة غرائزهم أصبحت طبقا رئيسيا لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووصلت ذروتها مع حديثه عن إيمانه وارتباطه بإسرائيل الكبرى التي تعني في المخيلة الشعبية المقولة واسعة الانتشار (من النيل إلى الفرات)، ولأن المصطلح مطاطي، ولم يتحقق سابقا في التاريخ، فالحديث عنه كذلك يتخذ تأويلات كثيرة، ولكن في معظم التفسيرات يلتهم أجزاء من مصر وسوريا والعراق، والأردن ولبنان بالكامل.
في لحظات تاريخية معينة، لم يكن دخول دمشق أو القاهرة أمرا مستحيلا من الناحية العملية، فالضربة المباغتة التي حدثت في يونيو/حزيران 1967 كان يمكن أن تمضي إلى مثل هذا المشهد المرعب، وبغض النظر عن موقف المجتمع الدولي، أو التكلفة فإن إسرائيل كانت تدرك أنها لا تستطيع أن تدير، شبرا الحي المصري الشهير والمزدحم بالسكان، والأمر نفسه مع دمشق وحتى في بيروت فبقاء إسرائيل أثناء غزوها في 1982 كان يعني تورطها في مستنقع حقيقي ونسخة مصغرة من الجحيم. هل يتغيب ذلك عن نتنياهو، وهو يطلق تصريحا كبيرا وخطيرا عن إسرائيل الكبرى، في توقيت حرج ومحرج في الوقت نفسه؟ مبدئيا يتوجه التصريح إلى المستوطنين لاستبقائهم ضمن التحالف الذي يقوده نتنياهو منذ سنوات، وهو يحتاج إلى تعزيز شعبيته بين المستوطنين تحديدا، بعد توسع أزماته السياسية والقانونية، ورغبته في المحافظة على موقعه السياسي، لتجنب أن تنتهي حياته بمشهد مخزٍ في زنزانة في أحد السجون، وهو ما عايشه رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت باتهامات أقل كثيرا من القائمة المتخمة بالمخالفات وجرائم الفساد. من المحزن والمشين بالنسبة للإنسانية كلها أن يقف العالم أمام المجزرة، التي يرتكبها نتنياهو لأسباب غير بعيدة عن مصالحه الشخصية، وأن يواصل الفلسطينيون دفع الثمن الكبير لبقائه خارج القضبان، بل رغبته في التحول إلى بطل بالصورة التي تحرج المؤسسات الإسرائيلية، وتدفعها لمراجعة فكرة سجنه، والخيارات أمامه مفتوحة في سوريا ولبنان، لتحقيق تحييد مذلٍ للبلدين، مع قضم بعض الأراضي، التي ستقدم رشوة للمستوطنين الذين أتى تصريح إسرائيل الكبرى لاسترضائهم.
عايشت حالة من التأمل للمستوطنات في الضفة الغربية أثناء فترة مراهقتي، وفي الوقت الذي كانت تغرق فيه القرى الفلسطينية في الظلام لأيام أثناء الانتفاضة الأولى، كانت المستوطنات تبقى مضاءة لتكون تجسيدا لمفارقة أو سلسلة من المفارقات، فأصحاب الأرض محرومون من حقوق إنسانية بسيطة وشائعة، في معظم أنحاء العالم، والمستوطنون ينعمون بمزايا كثيرة، ويحدث ذلك كله في مساحة صغيرة، ولكن المستوطن أيضا هو بصورة أو بأخرى يعيش حالة من الإقصاء والنبذ من المجتمع الإسرائيلي في المدن، وعليه أن يعمل في الزراعة وبعض المهن البسيطة، بينما يعمل أبناء المدن من اليهود الغربيون في المصارف والشركات الكبيرة، وتعبيرا عن رد الفعل، يفرغ المستوطن عقدته تجاه الفلسطينيين، يشعر بتميزه وتحققه من خلال استهدافهم والتأكيد على ضآلتهم وهامشيتهم. المستوطن العدواني يريد أن تتوسع مستوطنته لتلتهم الفراغ حولها ـ هذا ما يتخيله على الرغم من وجود آلاف الفلسطينيين حول كل مستوطنة – وتتشكل هذه العقيدة لتصبح تصورا استيطانيا لكل إسرائيل، وتصبح إسرائيل هي المستوطنة، والدول العربية في محيطها هي الفراغ، فما الذي يعرفه المستوطن سوى الشواطئ في سيناء، حيث يتجول في أجواء محمية وتحت السيطرة الكاملة، وتبقى في مخيلته أن العرب يمتلكون الكثير من الأرض، وأنهم لا يستطيعون إدارة هذه الأرض، وأن معجزة المستوطن هي استنطاق الأرض بالثروة الزراعية والعمل المتصل، ولاستكمال الصورة الذهنية في مخيلته، يتجاهل عمليات السطو على المياه والموارد لمصلحته، ووضع كل العراقيل أمام الفلسطينيين الذين يعبرون عن العرب، والذين تمكنوا من تقديم مثل من الإدارة الذاتية في المرحلة ما بين 1988 و1994 تستدعي إعجاب العالم كله، كما يتضح من أساليب وتدابير وضعوها ليستكملوا حياتهم ويديروا مؤسساتهم في الظروف الصعبة وعلى حدود اللا شيء تقريبا.
يدخل نتنياهو عالم أساطيره، ولعل المشهد الذي يود أن يستبقيه لأطول فترة ممكنة هو قصفه لمقر وزارة الدفاع في دمشق، بوصفه تكليلا لنجاحات بدأت مع ضربة البيجر في بيروت، وهذه المشاهد تطرب المستوطنين العصابيين، بحكم المفارقات التي يعيشونها، وما يبحثون عنه من تسويات نفسية، فالرب الإسرائيلي هو أقرب للمستوطن، الذي يعيش في حيز منفصل ومهدد بالغضب والعداء الفلسطيني (العربي)، منه لأبناء المدن الذين لا يسمعونه جيدا في صخب الحفلات والأندية الليلية. يجب عدم إهمال تصريحات نتنياهو بغض النظر عن عدم قدرته على تطبيقها، وعدم قدرته على أن يمضي أبعد مما حققه، فإلى اليوم تدرك الدولة العميقة في إسرائيل أنها لا تستطيع أن تدير حي شبرا في القاهرة، أو الميدان في دمشق، ولكن ما يحدث في المجتمع الإسرائيلي هو تقدم لرؤية المستوطن وعقيدة المستوطنة، وبحسابات ديمغرافية وإحصائية فإن هذه المستوطنات وفقا لرؤية المستوطنين، لا بد وأن تنجب نبيا جديدا يحقق النبوءات التوراتية.
يستخدم المستوطنون نتنياهو بالطريقة نفسها التي يستخدمهم فيها، ويعرفون أن توتره واضطرابه يمكن أن يحقق لهم مكاسب مهمة، ويمهد الطريق للحظتهم التاريخية، ويبدو العرب على الجانب الآخر، المحيطين بالمستوطنة الكبيرة، إسرائيل نفسها، غير مدركين لما يتفاعل داخلها، منفصلين عن الواقع، مستغرقين في الكسل الفكري ومفتقدين للحساسية بالتاريخ وعقده ومحركاته المادية، وما وراء المادية، تشغلهم أضواء آلات التصوير عن قراءة الواقع ودراسة احتمالات المستقبل.