
صحوة إسرائيلية متأخّرة منقوصة
رندة حيدر
حرير- كلّ من يتابع ما ينشر في إسرائيل أخيراً لا شكّ يلاحظ تبدّلاً في المزاج العام الإسرائيلي حيال ما يجري في غزّة، انعكس بصورة خاصّة في مواقف ومقالات تدين حرب التجويع التي تمارسها إسرائيل ضدّ سكّان غزّة، وتتهم إسرائيل علناً بارتكاب إبادة جماعية هناك، وجريمةً ضدّ الإنسانية. والجديد في هذه المواقف أنها لم تعد تقتصر على الإدانات والتقارير الصادرة من منظّمات إسرائيلية معارضة للاحتلال الإسرائيلي، وتدافع عن حقوق الإنسان، مثل المركز الإسرائيلي للمعلومات عن حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة (بتسيلم)، الذي أصدر تقريراً طويلاً يثبت ارتكاب إسرائيل إبادةً جماعية في غزّة، وكذلك منظّمة أطباء من أجل حقوق الإنسان، وجمعيات: يوجد قانون (يش دين)، ونقف معاً، ولنكسر الصمت، وجميعها جمعيات معروفة بمعارضتها للسياسات الإسرائيلية القمعية والتمييزية حيال الفلسطينيين، ويمكن أن نضيف إليها البيان الموقّع من أكثر من ألف فنان إسرائيلي، الداعي إلى وقف الحرب في غزّة، واعتراف الروائي المشهور ديفيد غروسمان بأن ما يجري في غزّة إبادة جماعية، ودعوة أكثر من مسؤول سياسي سابق إلى العصيان المدني احتجاجاً على استمرار الحرب.
الجديد، هو الإدانات الصادرة من جمعيات دينية يهودية مثل جمعية توراة العدل، التي تدافع عن حقوق الإنسان من منطلقات دينية، وكتب مديرها مقالاً حمل عنوان “لا يمكننا العيش في مجتمع يُجوّع الأطفال”، ومقال آخر لطبيبة نسائية متديّنة، حمل عنوان “تجاهل المجاعة في غزّة تدنيس للتوراة، وواجبنا الديني وقف الفظائع في غزّة”. بالإضافة إلى مقالات رأي نُشرت في أكثر من صحيفة إسرائيلية وموقع إخباري تأتي للمرّة الأولى على التجويع في غزّة بوصفه جريمة حرب، وتدين التجاهل والصمت. والسؤال الأساس هنا ما إذا من الممكن أن تشكّل هذه الصحوة المتأخّرة والجزئية بدايةً لاستفاقة واسعة النطاق داخل المجتمع الإسرائيلي العريض ضدّ الحرب في غزّة، وعملية الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الأبرياء والمدنيون العزّل هناك؟
من الصعب الإجابة، فموقف المجتمع الإسرائيلي غير المبالي بمعاناة الفلسطينيين، الذي يرفض أن يرى الفظائع التي ترتكبها دولتهم في غزّة ناجم من عدة عوامل، أكثرها أهمية صدمة هجوم 7 أكتوبر (2023)، وما خلّفه من هلع وشعور بالمهانة وألم ورغبة في الانتقام، بالإضافة إلى سياسات التحريض التي دأبت عليها حكومة اليمين برئاسة بنيامين نتنياهو ضدّ كلّ سكّان غزّة، والادّعاء بعدم “وجود أبرياء” في غزّة، التي ترافقت مع دعوات من وزارء في الحكومة بمحو غزّة، وحتى استخدام السلاح النووي ضدّها، وأيضاً الآراء التي روّجها قدامى العسكريّين الإسرائيليين مثل خطّة الجنرالات، التي تُشجّع على محاصرة السكّان ومنع وصول المساعدات إليهم لأنهم رعايا في “كيان” معادٍ، فضلاً عن الإعلام الإسرائيلي التحريضي الذي حرص على ترويج الرواية الإسرائيلية، واعتبار كلّ الاتهامات ضدّ الجيش والحكومة من صنع حركة حماس، وتستند إلى أكاذيب وأخبار ملفّقة. وليس من قبيل المصادفة منع إسرائيل دخول الصحافة الأجنبية غزّة، وحتى المراسلين الإسرائيليين لم يسمح لهم بالدخول إلا في جولات محدودة برفقة الجيش ومنعوا خلالها من تصوير سكّان غزّة من قرب، فالغزّيون في صور الإعلام الإسرائيلي جموع تائهة من دون وجوه. ولم تتغيّر هذه الصور إلا أخيراً عندما بدأت الصحف في نشر صور الأطفال الجائعين حاملين قصعات الطعام الفارغة، وينتظرون توزيع الحصص الغذائية، أو صور أجساد أطفال أنهكها الجوع والمرض.
وفي الحقيقة، تعود لامبالاة المجتمع الإسرائيلي بمصير الفلسطينييين إلى أقدم بكثير من “7 أكتوبر”. في العقود الأخيرة، حرص الإسرائيليون على العيش ضمن فقاعة خاصّة من الرخاء ورغد العيش. كانوا يشاهدون من بعيد العمليات الإسرائيلية المتعاقبة على القطاع، والدمار والموت اللذين يحدثان من وراء السياج، الذي اعتقدوا أنه يحميهم من الخطر ويجعلهم في منأى عن العنف المخيف وحلقات النار والدمار المتعاقبة. اعتقدوا أن العنفَ من صفات شعوب المنطقة التي يعيشون فيها، ومن الأفضل الفصل بينهم وبين الذين يحيطون بهم. انهار هذا كلّه وتلاشى في “7 أكتوبر”. ومن بين أسباب لامبالاة الأغلبية الإسرائيلية بما يجري في غزّة، ورفضهم الاعتراف بالفظائع التي تُرتكَب باسمهم، وباسم الدفاع عن أمنهم، جبن المعارضة السياسية في إسرائيل، واضمحلال ما كان يسمّى يوماً “معسكر السلام”، وازدواجية اليسار الإسرائيلي الذي يدافع بشراسة عن “الديمقراطية” في إسرائيل، ولا يجرؤ على رفع صوته لإدانة الجرائم التي تُرتكب في غزّة. بالإضافة إلى الخوف من اليمين المسياني المتشدّد، الذي يتهم بالخيانة والتواطؤ مع العدو كلَّ إسرائيلي يتعاطف مع محنة المدنيين في غزّة، أو يدين تجويع السكّان والتطهير الإثني والترحيل الطوعي والقسري. وفي الواقع، يعتبر جزء كبير من الإسرائيليين اليوم الاعتراف بحرب الإبادة والتجويع في غزّة انتصاراً للدعاية الحمساوية وخيانةً وطنيةً.
في ظلّ هذا المشهد الإسرائيلي، تبدو الصحوة الإسرائيلية، والاعتراف بالفظائع التي تحدُث في غزّة، مردّها الخوف من حكم التاريخ على الإسرائيليين وعلى صمتهم إزاء ما يحدث، الذي يشبّهونه بالصمت الذي رافق المحرقة وعملية الإبادة النازية ليهود أوروبا. الإسرائيليون الذين يحتجّون اليوم ويدينون ما يجري هم الذين لا يريدون أن يتهموا لاحقاً بالتواطؤ مع مجرمي الحرب، وبالسكوت عمّا يجري من إبادة وجريمة ضدّ الإنسانية. لكن هذه الصحوة متأخّرةٌ ومنقوصةٌ، صحيح أنها تُواجَه بشراسة من الأبواق الحكومية ومن اليمين المسياني وتتعرّض لـ”قمع فكري”. ولا يمكن أن تُصبح هذه الصحوة ذات وزن وتغيرية إذا لم تتسلّل إلى داخل الأغلبية الإسرائيلية، التي تعارض حكومة نتنياهو وتريد إطلاق سراح المخطوفين، وتطالب بوقف الحرب في غزّة، لكنّها لا تجرؤ على التصريح علناً وبصوت عالٍ أن ما يحدث في غزّة إبادة جماعية.



