السياسة اللبنانية المؤجّلة وعودة «اللحظة الحرجة»

وسام سعادة

حرير- يقاسي لبنان منذ تسعة أشهر تجربة مريرة من تجارب ما بعد الحرب، وهي تجربة «وقف إطلاق النار من جانب واحد». فإسرائيل تواصل غاراتها وعمليات الاغتيال ضد «حزب الله»، فيما يلتزم الأخير الصمت العسكري، مكتفيًا أحيانًا بالتعبير عن توتره إزاء أداء الدولة اللبنانية، بدعوى أنّ «الخيار الدبلوماسي» الذي تنتهجه هذه الأخيرة منذ إبرام اتفاق وقف إطلاق النار قد أثبت عجزه، وأحيانًا أخرى يُبدي تكيّفًا مع بعض المواقف الصادرة عن مسؤولين في الدولة، ولا سيّما عندما يشترط هؤلاء انسحابًا إسرائيليًّا من التلال المحتلة جنوبًا، كمدخل إلى الشروع في تسلّم سلاح «الحزب» بشكل كامل، وطيّ صفحة الميليشيات اللبنانية والفلسطينية على حدّ سواء..

وفي المسافة الفاصلة بين التشنّج والتكيّف، تصدر من حين إلى آخر، عن بعض المقرّبين من أجواء «الحزب» أو ممّن يحسبون أنفسهم عليه، تهديدات بإعادة سيناريو هجوم 7 أيار/مايو 2008، أي استخدام السلاح في الداخل اللبناني. غير أنّ هذا النوع من التهديدات يبدو أنّه فقد كلّ فاعليته منذ انتهاء الحرب الأخيرة..

في هذا الوقت، يتزايد الضغط على الدولة اللبنانية للتعجيل في تفكيك البنية العسكرية والأمنية لـ»حزب الله»، كما توحي بذلك خارطة الغارات الإسرائيلية الأخيرة، التي تشير إلى منحى تصعيديّ يترافق مع هذا الضغط..

وعمومًا، يبدو أنّ إسرائيل، حالما تتمكن من تثبيت وضعية تقترب من «وقف إطلاق نار» في غزة، ومن صيغة تدخل حذرة إنما مستقرة نسبيًا في الجنوب السوري، فإنّها ستزيد من ضغطها على لبنان و»الحزب» على حدّ سواء.

والسؤال المطروح في ظلّ هذه المعطيات: هل في وسع لبنان أن يتفادى تصعيدًا إسرائيليًّا شاملاً في الأسابيع المقبلة، قد يتبعه تصلّب أكبر في الشروط المفروضة عليه؟

ولا يقتصر هذا السؤال على قضية «سلاح الحزب» فحسب، بل يتعداه إلى تصوّر إسرائيلي أشمل، يرى أنّ لبنان، رغم الهزيمة التي مُني بها «الحزب» في الحرب الأخيرة، ما يزال خاضعًا لنفوذه أكثر من أي نفوذ آخر.

هذا النفوذ، وإن بدا في أسلوبه الأكثر مشهدية وكأنّه إلى انحسار، بفعل نتائج الحرب والحصار المطبق، لا سيّما مع ربط مسألة إعادة الإعمار بتفكيك بنية الحزب، إلا أنّ الشبكة الإجمالية لهذا النفوذ ما تزال قوية، وقادرة على إعادة إنتاج ذاتها متى تبدلت الظروف، وتراجع الحصار أو خفّ الضغط. من هذا المنظور، لا يمكن القول إنّ لبنان انتقل من ضفة إلى أخرى. فما يزال تحت نفوذ الحزب، وإن يكن نفوذًا «معلّق التنفيذ»، طالما أنّ الحزب في موقع دفاعي سلبي، تتلقى تركيبته الضربات من إسرائيل، من دون أن يردّ، فيما هو يسعى بالتوازي إلى الالتفاف على المساعي الجارية لتفكيك بنيته العسكرية والأمنية بصورة نهائية. لكن المشكلة تبدأ، كما في صيف العام الماضي، من الإصرار على تجاهل إشارات تتزايد وضوحًا، ومفادها أنّ التسخين السريع والتصاعدي ضد لبنان مرشح للتفاقم، خصوصًا عندما يتراجع التركيز العدواني الإسرائيلي على جبهات أخرى. فنحن، منذ 7 تشرين الأول، في حرب متعددة الجبهات، تختلف وتيرة التصعيد فيها بحسب مجريات الصراع العام بين إسرائيل من جهة، وكلٍّ من إيران، و»حماس»، و»حزب الله»، والحوثيين من جهة أخرى.

ويتقاطع هذا المسار مع معضلة إضافية، تتمثل في انسداد أفق أي خرق ممكن في الجدار الفاصل بين إسرائيل والسعودية، طالما أن الحكومة الإسرائيلية ترفض أي صيغة من صيغ الدولة الفلسطينية، بل وتذهب نحو تصعيد متواصل مع الأوروبيين في هذا الشأن. أما مع الولايات المتحدة، فرغم ضرورة الحذر من المبالغة في توصيف التوتر مع حكومة نتنياهو، فإنّ المؤشرات تدل على تزايد هذا التوتر في المستقبل القريب. كل ذلك لا يدفع إسرائيل إلى التراجع الاستراتيجي طالما أن الميزان مختل لصالحها على هذا النحو، بل يحفّزها على خطوات تسخينية باتجاه لبنان. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل في الداخل اللبناني من يستشعر خطورة تلاقي هذه المسارات في هذا التوقيت الحرج؟

الغالب على الصورة الرسمية اللبنانية هو تجاهل وجه الحرج في اللحظة الإقليمية الراهنة. والغالب أيضاً هو غياب أي نقاش جدي حتى الآن حول ما جرى في السنوات الأخيرة، وبخاصة منذ «حرب الإمداد»، مروراً بحرب الخريف الماضي، وصولاً إلى تفاهم وقف إطلاق النار من جانب واحد.

من جهة، ثمّة من يُكابر على الهزيمة التي تعرّض لها، وإن كانت هذه المكابرة قد شحبت هي الأخرى في نهاية المطاف. ومن جهة أخرى، ثمّة من يُكابر على أن هزيمة الحزب لا تُنهي الانقسام الداخلي بل تُعمّقه من جهة، وتُعجزه عن التعبير السياسي عنه من جهة ثانية، مما يجعله انقساماً يتخفّى خلف ضبابيته، وخلف تراجع السياسة في البلاد عموماً، وإحساسٍ عام بأن اللبنانيين لم يعودوا فاعلين في تقرير مصير بلادهم، حرباً أو سلماً.

بمعنى آخر، إذا كان احتكار «حزب الله» لقرار الحرب والسلم قد بلغ ذروته ـ وربما خاتمته ـ في الحرب الأخيرة، فإن استعادة هذا القرار إلى كنف الدولة لم تُطرح بعد شروطه الداخلية ولا شبكة إسناداته الإقليمية والدولية المناسبة.

اللبنانيون، والحال هذه، ينقسمون «عاطفياً» بين من لا يريد التفكيك النهائي لسلاح الحزب، وبين من لا يريدون سوى ذلك. أما استعادة قرار الحرب والسلم إلى كنف الدولة، فيبدو خارج التغطية في النقاش الداخلي ـ إن وُجد هذا النقاش أصلاً. فالحديث الجدي عن نقاش داخلي غير ممكن في اللحظة الحالية، ولذلك يصعب أيضاً تصوّر المحور الذي ستُخاض على أساسه الانتخابات النيابية العام المقبل. يفترض أن يكون لبنان قد دخل، اعتباراً من الآن، موسم التحضير لانتخابات نيابية هي الأولى بعد الحرب الأخيرة، والضربات القاسية التي تلقّاها «حزب الله»، وخصوصاً بعد اغتيال أمينه العام، كما أنها الانتخابات الأولى بعد انتهاء الفراغ الرئاسي وانتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية. لكن، على أي أساس يمكن أن تكون هذه الانتخابات «سياسية»، إن كان السؤال الجوهري عن «قرار الحرب والسلم» مستبعداً من النقاش السياسي اللبناني أصلاً؟ لن يكون لها، عندها، من أساس حقيقي.

مقالات ذات صلة