الشعوب هي المفصل… الأمم المتحدة بلا روح، والحكومات في عتمة التردد

يحيى بركات

** موجةٌ تعبر اليابسة والبحر
في قلب فينيسيا، حيث يلتقي البحر بالسينما، لم تكن الكاميرات وحدها تلتقط المشهد. عشرات المراكب الصغيرة تقدّمت نحو الليدو، قوارب صارت شاشة بديلة، ترفع أعلام فلسطين وتصرخ ضد الإبادة. كان المشهد أشبه بكادر من فيلم مقاومة: الموج خلفية، واللافتات سيناريو مكتوب بالدم والضمير. مهرجانٌ لطالما تحصّن من السياسة، اخترقته الشعوب هذه المرة بالماء والهواء معًا.

وفي ديترويت الأميركية، بدا مركز Huntington Place كقاعة مونتاج عملاقة تجمع آلاف الأصوات. ثلاثة آلاف وأكثر من الشباب والصبايا من كل الولايات، بيض وسود، مسلمون ويهود ومسيحيون، طلاب وفنانون ونقابيون. جلسات، ورش، خطابات، أغنيات، كلها تعلن: فلسطين ليست وحدها. ثلاثة أيام بدت كأنها فيلم وثائقي طويل عن الضمير الأميركي المخنوق، يخرج من القبو ليرى النور.

وفي برشلونة، الميناء تحوّل إلى منصة ضمير إنساني. “أسطول الصمود العالمي” يجهّز عشرات السفن ليشقّ البحر نحو غزة، في أضخم مشهد بحري إنساني منذ بدء الحصار. مشاركون من عشرات البلدان، بينهم غريتا تونبرغ، عمدة برشلونة السابقة آدا كولاو، وشخصيات أممية، كلهم جمعهم الكادر ذاته: البحر طريق للحرية، لا جدارًا للتجويع.

** أوروبا: شارعٌ واضح وحكوماتٌ مترددة

في هولندا، نحو 150 ألف إنسان رسموا “خطًا أحمر” حول لاهاي، مطالبين بعقوبات على إسرائيل. مشهد بحجم استديو مفتوح، تتداخل فيه رايات النقابات مع شعارات الأطباء والمعلمين، وتعلو فيه أصوات الحشود على مبنى محكمة العدل الدولية نفسها.

في بروكسل، لم تهدأ المدينة. مسيرات متكررة، اعتصامات داخل محطة “ميدي”، مظاهرات بعنوان “الكارت الأحمر” قيد التحضير. الحراك متصل كالمونتاج المتوازي: لقطة بعد لقطة، يوم بعد يوم، ضغط شعبي يتنامى.

أما ستوكهولم، فكل أسبوع مشهد جديد. المئات في أودنبلان، يسيرون نحو البرلمان، يهتفون بوقف الحرب ورفع الحصار. أوروبا الشمالية الباردة، لكن الأصوات فيها حارقة، تخترق صمت الثلج.

وفي المغرب، كانت مراكش مساء 28 أغسطس شاشة أخرى. عشرات الآلاف في الشوارع، هتافات ضد الإبادة، ضد التجويع، ضد الحصار. كادر مغربي يضاف إلى الفيلم العالمي: الشعوب تقول لا، فيما الحكومات تصم آذانها.

** فينيسيا… بوابة الرمزية الثقافية
العودة إلى فينيسيا واجبة. السينما نفسها تُحاصر بأسئلة صعبة: كيف يمكن أن تُحتفى صورٌ جميلة، بينما خارج الكادر تُمحى حياةٌ كاملة؟ القوارب الاحتجاجية لم تكن مجرد “أداء” عابر، بل إعادة كتابة لسيناريو المهرجان. الرسالة: لا فن بلا أخلاق، ولا جمال بلا عدالة.

** الأمم المتحدة بلا قانون
لكن، وأمام هذه المشاهد، أين الأمم المتحدة؟ أين مجلس الأمن؟
لم يعد بيت القانون الدولي، بل مقبرة القرارات. تحت هيمنة ترامب ومنطقه الفجّ: فيتو على الأمن، فيتو على السلام، فيتو على العدالة. دعم كامل للإبادة، للمجازر، للتجويع كسلاح حرب.

تصريحات قادة الاحتلال التي تتبجح بالقتل والتهجير لم يسمعها سيد البيت الأبيض. الرجل الساعي إلى جائزة نوبل للسلام صار عرّاب نتنياهو، وسموتريتش، وبن غفير. يتاجر بدم الشعب الفلسطيني كسلعة في بازار السياسة.

** الشعوب هي الحقيقة

لهذا، على القيادة الفلسطينية أن تغيّر بوصلة التوجه. لا رهان على مجلس أمن بلا أمن، ولا على أمم متحدة بلا وحدة، ولا على أميركا التي لم تكن يومًا وسيطًا بل طرفًا في الجريمة.

الرهان هو على الشعب الفلسطيني، وعلى الشعوب الحيّة في العالم التي ملأت الميادين والساحات، وأبحرت بالمراكب، وواجهت حكوماتها. الشعوب هي المفصل…
الشعوب هي الحقيقة.

كما قال محمود درويش:
«أمريكا هي الطاعون… والطاعون أمريكا».
لكن الشعوب تثبت أن الدواء موجود: اسمه التضامن، والضمير، والقدرة على تحويل السينما إلى منبر، والشارع إلى شاشة، والبحر إلى مرآةٍ للحرية.

** لقطة أخيرة
من قوارب فينيسيا، إلى قاعات ديترويت، إلى أشرعة برشلونة، إلى جسور لاهاي، ومحطات بروكسل، وثلوج ستوكهولم، وأزقة مراكش… كل لقطة تضيف إلى فيلم طويل عنوانه: الشعوب لا تصمت.
أما الحكومات، فما زالت في
“توقف صورة”،
عاجزة عن قرار.
لكن القصة لن تُغلق على الأسود:
كل موجة، كل هتاف، كل مسيرة، يضيف مشهدًا جديدًا في فيلم أطول من الحرب نفسها.

إذا كانت الموانئ تفتح طرقها للضمير، فلتلحق بها السياسات. الشعوب قالت كلمتها — وعلى أوروبا والعالم أن يختاروا:
إمّا الالتزام بالقيم التي يدرّسونها،
أو البقاء أسرى صمتٍ موثّق لن يُمحى من أرشيف الذاكرة.

يحيى بركات
مخرج وكاتب سينمائي
31/8/2025

#الحرية_لفلسطين #أوقفوا_الإبادة #غزة_تحت_القصف #الشعوب_هي_المفصل #فلسطين

مقالات ذات صلة