الكواليس غير المضحكة للممثّل الكوميدي!

سليمان المعمري

قبل عدة أسابيع، وبعد أيام فقط من إطفائه شمعته السابعة والستين، صار الممثل الكوميدي “ترند”؛ ليس لمسرحية كوميدية جديدة أضحك فيها الناس بخفة دمه، ولا لفيلم سينمائي أظهر فيه إمكانياته التمثيلية، ولا لإعلانه عن مرض ألمَّ به جلب له إشفاق الجمهور، بل لأن تصريحًا له انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي مفاده أنه يمر بأقسى فترة ظلم في حياته؛ فهو غائب عن الأعمال الفنية، ولا أحد يعرض عليه أن يُمثّل الآن، وأنه لن يسامح أحدًا على هذا الظلم البيّن الذي يتعرض له. انتشر التصريح انتشار تغريدات ترامب في “تروث”، وسلّط الضوء على معاناة عدد من الممثلين من تراجع الفرص الفنية، لكن الممثّل الكوميديان سُرعان ما انبرى لتوضيح موقفه، نافيًا الشائعات ومؤكدًا استعداده لمشاريع تمثيلية جديدة بعد عيد الأضحى، وساعده على هذا النفي نقابة المهن التمثيلية في بلاده – التي أعلنت أنها “بدأت التحقيق في المنشور المتداول” لتتخذ ضده الإجراءات القانونية، في إشارة إلى أنه منسوب إليه زورًا وبهتانًا، بل إن رئيسها شهد أنه هو نفسه كان وسيطًا بين المنتجين الفنيين وهذا الممثل الكوميدي الذي كان يرفض أعمالًا فنية معروضة عليه!
إلى هنا وكل شيء طبيعي. طبيعيّ أن تنحسر العروض عن ممثل تقدم في العمر، وبديهي أن يَعُدّ ذلك ظلما فيشتكي منه، ومعتادٌ أن تتراجع شخصية عامة عن تصريحها حين تتفاجأ بأنه اكتسب زخمًا أكبر مما توقع، بحيث بات يُهدد كرامتها الشخصية، لكن غير الطبيعي هو كمية اللا تعاطف الهائلة التي طالت الممثّل، ليس فقط من جمهور عادي غير معجب بأدواره، وإنما من زملائه في الوسط الفني. مؤلف درامي يصغر الممثل المشتكي بنحو ثلاثين عاما سرد حكاية مؤثرة حدثت قبل ثمانية عشر عامًا حين كان طالبًا في أكاديمية الفنون، يقول إنه في سنة ٢٠٠٧، وبالاتفاق مع القائمين على إحدى المسرحيات الكوميدية، قرر أستاذه في الأكاديمية الذي هو أيضًا مخرج مسرحي كبير حمله مع عدد من زملائه طلبة الأكاديمية إلى هذا المسرحية ليتدربوا فيها على التمثيل من خلال أداء بعض الأدوار القصيرة. كانت هذه المسرحية من بطولة الفنان الكوميدي الذي نتحدث عنه، و” كان مغرورًا ومتعاليًا بشكل غريب” على حد تعبير المؤلف سارد الحكاية. وفي “البروفة” الأخيرة التي تسبق العرض الأول بيوم، أدى هذا الطالب دوره في المسرحية على خير ما يُرام، ومن سوء حظه أن مَنْ كان حاضرًا في الصالة من طلبة وأساتذة ضحكوا على بعض “إفيهاته”. أوقف الممثل الكوميدي “المحترف” البروفة، ووبّخ الطالب أمام كل الحاضرين قائلًا: “سوف تأخذ فرصتك ذات يوم، ولكن ليس معي. قف مكانك دون أن تفوه بكلمة”، ويبدو أنه – أي الممثل الكوميدي – لم يجد هذا عقابًا كافيًا على تجرؤ طالب مبتدئ على إضحاك الجمهور في مسرحية يقع عاتق الإضحاك فيها عليه هو وحده لا غيره، لذا تدارك قائلا: “منذ الآن لن تعمل معي، اخرج”. يقول الطالب – الذي سيصبح بعد ذلك مؤلف أفلام ومسلسلات معروفًا – إنه خرج من القاعة وعيناه مغرورقتان بالدموع، وذهب للصلاة والدعاء على هذا الممثل بينما هو منهارٌ من البكاء، وإنه حين قرأ شكواه الأخيرة تذكّر هذه القصة، بل إنه أضاف أنه قبل خمس سنوات عرض عليه أحد المنتجين أن يكتب فيلمًا لهذا الممثل الكوميدي لكنه رفض رفضًا قاطعا حتى وإن بلغ أجره عن هذه الكتابة مائة مليون!
والحقيقة، أن هذه الحكاية التي حذفها المؤلف من حسابه بعد تدخلات أصدقاء مشتركين بينه وبين الممثل الكوميدي، تنسجم مع حكاية أخرى كنتُ شاهدًا عليها عام 2005، أي قبل عشرين عامًا، وكتبتُ عنها مقالًا في هذه الجريدة حمل عنوان “ربنا يخلي جمعة”، على عنوان مسرحية كان الممثل الكوميدي بطلها. تتلخص الحكاية، التي نشرتها صحيفة “القدس العربي” في ذلك الوقت، في أن راقصي مسرحية “ربنا يخلي جمعة”، ثاروا على بطل مسرحيتهم (وهو الممثل الكوميدي بطل هذا المقال) ولكموه على وجهه، وفي أنحاء متفرقة من جسده، لم تحددها الصحيفة، بعد أن اتهموه بالغرور والدكتاتورية والتشبث بآرائه حتى ولو كانت خاطئة، وتدخله في مجريات العرض بصورة كبيرة، علاوة على إساءته معاملتهم. بدأت الأزمة في فترة الاستراحة ما بين الفصلين الأول والثاني عندما طلب الممثل من أحد الراقصين الالتزام بــ”خطوة فنية” وراءه أثناء ظهوره على المسرح، واحتدم الخلاف بينهما، وتطور الأمر إلى اشتباك بالأيدي، ودخل الراقصون الذين كانوا خارج الغرفة انتظارًا لما ستسفر عنه المشادة، حيث اقتحموا غرفة الممثل، وجذبوه من ملابسه ومزقوها ولكموه وأزالوا مكياجه، مما أدى ليس فقط إلى إلغاء العرض في تلك الليلة، بل أيضا إلى إلغاء العرض برمته.
إن كان من فائدة نستخلصها من هذه الحكايات الثلاث؛ حكاية تذمّر الممثل من انحسار الأضواء عنه، وحكاية الراقصين الغاضبين، وقبلها حكاية المؤلف الدرامي، هي أنه ليس بالموهبة وحدها يحيا الفنّان، بل إن التواضع والتعامل الإنساني مع زملاء مهنته، ومع جمهوره، ومع الجميع، هو ما يجعله خالدًا في قلوبهم، أما التعالي والتكبّر والتعامل القاسي فلن يعود عليه إلا بالكراهية والنكران، والتخلي عنه حين يكون في أمسّ الحاجة إلى كلمة طيبة ولمسة تعاطف.

جريدة عُمان. عدد الأحد 22 يونيو 2025:

https://www.omandaily.om/article/1181011

مقالات ذات صلة