
الاستقرار الإقليمي مسؤولية عربية أم أمريكية؟
لطفي العبيدي
حرير- سجل الولايات المتحدة في المنطقة كارثي بكل المقاييس. وما يحدث في غزة يشير إلى التناقض الواضح بين شعارات حقوق الإنسان التي ترفعها أمريكا، وأفعالها الواقعية في مواصلة دعم كيان استعماري يُبيد شعبا بكامله. يحاول ترامب عبر عقد الصفقات المالية والاستثمارية تأكيد ما تعهّد به في حملته السابقة عندما قال: «أمريكا أوّلا ستكون الموضوع الرئيس والأهمّ لدى إدارتي. ولكن لرسم طريقنا إلى الأمام، يجب علينا أولا، للحظة، أخذ نظرة إلى الوراء. لدينا الكثير مما يستحق أن نفتخر به». فعلا يمكن لأمريكا أن تفتخر بمشاركتها في حرب الإبادة والتجويع ضد الفلسطينيين في غزة، ودعمها المتواصل للمحتل الإسرائيلي في القصف والتدمير وقتل الأطفال دون رحمة.
في الحرب التي يواصل الكيان الصهيوني شنّها على فلسطين، وأيضا حرب أوكرانيا تتشارك الإدارة الأمريكية الحالية الازدواجية والتلوّن الخطابي نفسهما مع إدارة بايدن السابقة، ما يجعل تأثير الرئيس الأمريكي الحالي على كيفية قيام حلفائه بتطبيق هذه الحروب، تصعيدا أو إنهاء محدودا أكثر بكثير مما كان متوقعا، نظرا لدوره المركزي كمورّد للأسلحة والمعلومات الاستخباراتية. هو يكتفي بالصراخ على بوتين الذي تغيّر في نظره، ولم يعد يفهمه. ويصمت على نتنياهو وكأن السلام يعمّ المنطقة، ولا انتهاكات يومية تحدث في حق شعب أعزل. الولايات المتحدة مرتبطة ارتباطا وثيقا بكلا الصراعين، رغم تراجع دونالد ترامب لأيام عن دعم كييف، ثم عودته طامعا في عقد صفقة المعادن. وباعتبارها أقوى حليف لإسرائيل، وأفضل أمل لأوكرانيا في البقاء والمواجهة، لا يبدو أنّ الرئيس الذي تكلّم كثيرا عن قدرته على إنهاء الحربين، يمكن أن يفعل شيئا يوحي بذلك، بل يبدو أنه أحيانا غير مرتبط أصلا بفهم كيف تتصرف تلك الدول، أو لديه تصور كيف تنتهي هذه الحروب الكارثية، إدارة ترامب دافعت عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بالطريقة التي تراها مناسبة، وشرّعت بذلك للعنف والمجازر تماما مثلما فعلت إدارة بايدن. ولا يوجد أدنى خلاف بين الولايات المتحدة وإسرائيل، أو لوم، أو حتى استنكار، رغم فداحة الانتهاكات اليومية. واشنطن أطلقت يد نتنياهو ليفعل ما يريد، بينما واصلت الإدارة الأمريكية خططها لتعزيز المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل بمليارات الدولارات، على نحو متواصل. وحتى الأسلحة النوعية التي تأجّل تسليمها لحكومة الحرب الإسرائيلية في عهد بايدن، تفاخر ترامب بتسليمها لمجرمي الحرب، ما يجعل حكومة نتنياهو ضد وقف إطلاق النار، وهذا طبيعي بفعل اللوبي الذي يخدم مصالح الكيان الصهيوني في الداخل الأمريكي، ويتشكل في جوهره من اليهود الأمريكيين الذين لا يتوقفون عن جهود تسيير السياسة الأمريكية وفق المصالح الإسرائيلية.
أخطاء أمريكا الاستراتيجية كانت محل نقد مفكرين أمريكيين وغير أمريكيين منذ عقود حتى الآن، نظرا للدور السيئ الذي لعبته الولايات المتحدة في التعامل مع الدول، وتأثيرها سلبا على الأمن والسلم الدوليين. هناك من دعا بشكل مبكر إلى رؤية أكثر رقيّا للدور الدولي الأمريكي، مقترحين على الولايات المتحدة أن تتبنى موقف «الهيمنة العالمية الهادفة» على اعتبار أنّ المحافظين الأمريكيين كانوا «بلا هدف» في مجال السياسة الخارجية، هدفهم هو تدمير البلدان. وبسببهم، لم يخل صراع انهمكت فيه الولايات المتحدة، خلال قرن مضى من أخطاء فادحة. حتى بات محتملا جدا أن يندلع صراع عالمي تُستخدم فيه أسلحة دمار شامل، ونرى كيف أنّ صداقة ترامب وبوتين لم تكن ضمانا لعلاقات تعاونية بين الولايات المتحدة وروسيا، ناهيك من العلاقة الأمريكية المتوترة جدا مع الصين، وبالتالي يحسن بواشنطن أن تتأمل في خريطة العالم جيدا، وأن تفكّر قبل أن تُقدم على أي خطوة تصعيدية.
بين التجارة والعسكرة ومآلات الصراع ومؤشرات التصعيد الجيوسياسي، هل يحتاج العالم إلى قوة مهيمنة للمحافظة على القواعد، وتحقيق النظام والاستقرار بشكل عام، أم أنّ المسألة تتطلّب توازنا دوليا وتعدد أقطاب وإرساء قواعد جديدة تحفظ الأمن الدولي، وتنظم العلاقات الدولية بشكل سليم؟ من المؤكد أنّ النظام العالمي المنقوص بعد الحرب العالمية، فتح الباب أمام الفوضى التي تتواصل حتى الآن. ورغبة الولايات المتحدة في مواصلة دورها المهيمن على شؤون العالم هو ما يفسّر مُضيّها في الحرب التجارية وفرض الرسوم على الجميع، بمن فيهم الاتحاد الأوروبي. والخطير في كل ذلك، أنّ مسارات التحول المعادي للديمقراطية، ومشاكل حقوق الإنسان وتغييب مبادئ القانون الدولي الإنساني، وكذلك معاناة اللاجئين والمهجرين والأقليات، ليست محل إعادة نظر من قبل إدارة ترامب. وغياب أي استجابة متماسكة لإنهاء الحروب التي تشارك فيها أمريكا بالدعم والتسليح تجعل نعي «وفاة الديمقراطية الأمريكية» منطقية جدّا. لم تبد الولايات المتحدة الأمريكية أي خطوة للسلام وتحقيق الاستقرار ودعم تحرير فلسطين، وحقها في أن تكون دولة مستقلة وحرة. ولم تهتم يوما بالشعوب وحقها في الحياة الكريمة. ومشاركة الإدارتين المتعاقبتين على البيت الأبيض في تدمير غزة ودعم مجازر الاحتلال، تسقط كل ادعاءات حقوق الإنسان والديمقراطية التي نادرا ما تطبّقها على نفسها. بالنسبة إلى المنطقة، يبدو أنّ ما يهم الإدارة الأمريكية الحالية هو أن تواصل المراهنة على مشروع التطبيع، الذي يُعدّ جائزة الكيان ما بعد الحرب، رغم كل أفعاله الاجرامية، ما سينتج كما يتصوّرون نوعا من الاستقرار لأمن إسرائيل. وبطبيعة الحال يُشكّل نقطة انطلاق لمشاريع التطبيع مع الدول الخليجية، وربما مع سوريا الجديدة ودول أخرى. حينها سيظل العار يمشي عاريا كما نراه اليوم. العمليات الوحشية في فلسطين تمت برضا الولايات المتحدة ما أعطى في النهاية صفة الشرعية على الاجرام والتشفي من منظورهم طبعا. قتلت إسرائيل نحو 45 ألف لبناني خلال فترة تدخلها في لبنان في الثمانينيات. ولكن أحدا لا يُحصي عدد ضحايا أمريكا ولا ضحايا أصدقائها. والشأن ذاته يحدث اليوم في حربها الهمجية على غزة التي يقارب ضحاياها 60 ألفا. من تدمير العراق إلى تفكيك الدول وإثارة الفوضى والحروب الأهلية بذرائع مختلفة مثل نشر الديمقراطية، وصولا إلى محاولة تصفية الوجود الفلسطيني. تلك هي العناوين الكبرى، وحصاد السياسات الأمريكية في المنطقة التي ادعت أنها تقود فيها عملية السلام. ولم يكن ذلك سوى أوهام تُخفي تحتها سياسة تُولي كل الأهمية لمصالحها التي تتعارض مع الحقيقة الموضوعية للقضايا المعلنة ولحقوق الشعوب المستعمرة. حقوق الإنسان «أيها العالم» ليست غربية فقط، بل هي إنسانية وفلسطينية أيضا.