الصراع الباكستاني – الهندي… القواعد التراجيدية للعبة النووية

سامح المحاريق

حرير- قبل أسابيع قدمت السينما الهندية فيلم «حالة طوارئ» الذي يحكي عن رئيسة الوزراء أنديرا غاندي، وجانب من حياتها الشخصية والأسرية داخل مسيرتها السياسية، ويظهر الفيلم مدى زخم الدراما والنزعة التراجيدية في حياة غاندي وعائلتها، ولكن كم سيبدو الفيلم بسيطا وخاليا من الإثارة، إذا ما قدمت سيرة عائلة مثل بوتو الباكستانية إلى شاشات السينما، ففي تاريخ هذه العائلة القادمة من خلفية أرستقراطية من محطات الصعود والسقوط، من الموت والخيانات، من الدماء والدموع، ما تتضاءل بجانبه القصة الهندية من نسخة صراعات السلطة ومآلاتها، ويمكن أن الأمر يصلح للمقارنة بين البلدين، لا الأسرتين النافذتين وحدهما.

كانت باكستان حصان آسيا الأسود في الستينيات، وقدمت بوصفها النموذج الذي يواجه التجربة الشيوعية في آسيا، وحظيت بصداقات متميزة مع الأوروبيين والأمريكيين، إلا أن الأمور أخذت تمضي إلى الأسوأ بصورة مريعة، بعد انفصال بنغلاديش الذي دعمته الهند، لتبدأ حفلة من التلاوم والتربص السياسي، وصلت إلى ذروتها الدموية مع إعدام ذو الفقار علي بوتو في نهاية السبعينيات لتدخل باكستان في نفق الحكم العسكري مع الجنرال ضياء الحق الذي تمكن من استثمار دور باكستاني في الحرب الأفغانية، التي استهدفت الاتحاد السوفييتي، ليتم تحييده أو التخلص قبل نهاية عقد الثمانينيات وانهيار الكتلة الشرقية.

اليوم، تعيش باكستان جملة من التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، تزامنت بصورة تزيد من حدتها وتضغط على الباكستانيين على جميع المستويات، ولا يبدو الوسط السياسي الباكستاني قادرا على استيعاب التفاعلات السياسية والأمنية، التي تبعت اعتقال رئيس الوزراء السابق عمران خان، ومنها محاولات الزحف الواسع لأنصاره تجاه إسلام أباد، وأخرها في شهر نوفمبر الماضي، أما الحالة الاقتصادية فتمر بمرحلة يمكن أن تصنف بالأسوأ على الإطلاق مع عجز كبير في الميزانية ومديونية تتخطى 280 مليار دولار أمريكي، ومعدلات تضخم تتجاوز 30%، كما تعاني من مشاكل في المياه والطاقة.

أما على المستوى الإقليمي فالمشكلات لا تقتصر على الهند، لأن السنوات الأخيرة شهدت أيضا اضطرابات في العلاقات مع أفغانستان، حول ملفات تتعلق بالإرهاب واللاجئين تقاربها الدولة الباكستانية بكثير من الحساسية نظرا لتوزع القبائل البشتونية على جانب الحدود، ولا تقل العلاقة تعقيدا مع الإيرانيين، وتتأرجح بين التعاون الذي لا يمكن التعويل عليه في المدى البعيد، ولحظات ساخنة مثل الاشتباكات الحدودية، التي تدور حول اتهامات متبادلة تخص الجماعات العسكرية في إقليم بلوشستان. الحديث عن أزمات باكستان يمكن أن يملأ صفحات كثيرة، وفهم هذه الأزمات يتطلب بحثا مرهقا ومضنيا، لأن بعضها يمتد على تاريخ باكستان، البلد الذي لم يستكمل مئويته الأولى في الوجود، وبعضها يستدعي أسبابا أبعد في التاريخ، وجميعها تعيش واقعا معقدا وساخنا، في ظل تشابك الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، وتفشي المظلوميات والمرارات في مفاصل شهدت اقترابا خطرا من لحظات صدام عنيفة.

ولدت باكستان في ظروف صعبة، وعايشت في تاريخها مآسي متتابعة، وبقيت الهند عدوها الوجودي الذي يتوغل في التركيب الجيني للوطنية الباكستانية، فما هو وراء المعلن، وفي تركيبة الرواية الباكستانية، أن باكستان كانت إلى حد بعيد تشبه قارب نوح الذي حمل الناجين من أرض الظلم في الهند، ويتسق ذلك أساسا مع تشكل الأقلية المسلمة في الهند، التي أتت كمظهر احتجاجي تدريجي وصامت على نظام طبقي صارم يحكم فئات واسعة من الهنود، ويبرر عيشهم في ظروف دون إنسانية، وفي الذاكرة الأقرب، ما زالت تمثل لدى الباكستانيين عمليات الترحيل الواسعة عبر الحدود، فكثير من الباكستانيين تركوا أراضيهم في مقاطعات هندية مختلفة هربا من العنف، وتجنبا للتحيز ففي الحقيقة كان العنف متبادلا، لأن الهندوس أيضا كان يمرون برحلات صعبة وموجعة وهم يغادرون أراضيهم التي أصبحت جزءا من باكستان. لا تمتلك باكستان الإمكانيات الكبيرة المتاحة للهند، وتعرف أن حربا طويلة تعني تهديدها وجوديا، وفي جميع الحروب السابقة بقيت الغلبة الاستراتيجية لمصلحة الهنود، ولكن ذلك لم يمنع الباكستانيين من الاستحضار الدائم للهند في جوهر خطابها السياسي، وجميع تجلياته الاجتماعية والاقتصادية، وكانت ذروة ذلك في السعي الباكستاني لامتلاك القنبلة النووية في ملحمة وطنية أبدت باكستان خلالها، على المستوى الرسمي والشعبي، الاستعداد لأكل العشب وأوراق الشجر لامتلاك سلاح ردع نووي، ولم يكن ثمة قوة في العالم يمكن أن تمنع الباكستانيين من الوصول إلى ذلك، والإعلان عنه بصورة واضحة في التسعينيات من القرن الماضي. لا يمكن أن يتحصل الباكستانيون على دور الرجل الطيب في الحكاية الطويلة والصعبة التي تجمعهم مع الهند، فالباكستانيون كانوا الطفل المدلل للغرب لفترات طويلة، واستفادوا من دعم اقتصادي وسياسي شبه مفتوح في بعض المراحل، بينما كان الهنود يقفون في صفوف العالم الثالث، الذي يسعى لتحقيق شيء من الاستقلال الحقيقي والاعتزاز الوطني، وفي بعض القضايا اتخذت الهند مواقف مشرفة قياسا بالمواقف الباكستانية، فالهنود يعتبرون باكستان جزءا من مشكلاتهم، يتقدمون لمكانة الأولوية أحيانا، وفي أحيان أخرى يتراجعون، أما في باكستان فهذه الخيارات غير مطروحة، فالأساس أن تبقى العيون يقظة ومفتوحة على اتساعها تجاه الهند، مهما كانت حركة العالم من حولهم، ولذلك، فإن الأصابع الباكستانية تبدو أقرب إلى الزر النووي ومن اتخاذ قرار ربما يتلاءم مع التركيبة النفسية وبنية الشخصية الباكستانية، وباكستان لا تخفي ذلك، وأعلنته مع سياسة الضربة الأولى في 1999 بعد حرب الكارجيل في كشمير.

بعد الضربة الهندية الأخيرة لباكستان، أثبتت إسلام أباد تمسكها بالمبادئ الأساسية لعلاقتها مع الهند، ومع أن تصريحا حول الرد المناسب كان صدر من المسؤولين الباكستانيين، إلا أن الرد أتى قبل أن تستكمل الشمس سطوعها على المنطقة، وكان البلدان في موقف يتسم بالندية المؤقتة، التي تشهدها الأيام الأولى من حروبهما، وقبل أن تتمكن الهند من حشد إمكانياتها الواسعة وتفوقها الكاسح في الأسلحة التقليدية، ولكن الباكستانيين يبدون مصرين هذه المرة على عدم الخروج بهزيمة مماثلة للمرات التي حدثت مسبقا، ويمكن أن يتخذوا موقفا بين التهدئة المفاجئة إذا وجدوا من ينزلهم من شجرة الإحراج أمام الهجمة الهندية، أو أن يمضوا في خياراتهم إلى الحدود القصوى، لأن هزيمة أخرى في توقيت تتزامن فيه الأزمات وتتشابك حولهم سيجعل ارتداداتها الداخلية كارثية مع تململ كثير من الأقاليم مثل البنجاب، ونذر التثوير في بلوشستان، ووجود نموذج بشتوني يتمدد في الفراغ الاستراتيجي الذي أتى بعد خروج الأمريكيين وتشاغل الروس في أوكرانيا.

الحكومة اليمينية في الهند تعرف أنها أمام فرصة كبيرة للتلاعب بأعصاب الباكستانيين في هذه الظروف، ولكن إلى أي مدى يمكن للهنود الذين تلقوا إهانة كبيرة ضربت في سمعة سلاح الجو الخاص بهم بطائراته المتطورة، ألا يندفعوا للجانب العاطفي للرواية، أي الجانب المفضل لدى باكستان؟ الهند هي الأخرى ليست في الموقع المثالي، فأحد المراهقين المسلمين يرد على مراسل قناة تلفزيونية، يطالبه بتمني فناء باكستان، بشجاعة مستندا إلى مرارات متراكمة لدى الأقلية المسلمة، ويغادر غاضبا، المشهد يبدو مجهريا، ولكنه هذه المرة يعبر عن مشاعر نحو مئتي مليون مسلم في الهند نفسها، نعم، فالأقلية في الحالة الهندية تعني مئتي مليون، وهو العدد الذي لا تتجاوزه سوى سبع دول في العالم كله، أي أنه توجد باكستان أخرى تهدد الهند، وتقع داخلها، في كثير من مدنها وقراها.

ربما ما يحدث ليس طبول الحرب العالمية الثالثة، أو حرب نووية مدمرة ومتسعة، ولكنه إشارة إلى صعوبة وخطورة نقل الصراع إلى آسيا، التي لم تعد مجرد شعوب غارقة في الأساطير والأفيون، والملاحم التي تفشل حتى الآلهة – وفقا لمخيلة الشعوب – في حلها بصورة نهائية وحاسمة.

مقالات ذات صلة