بين “مركبات جدعون” و”البقرات الحمراء”… ترامب يطير شرقًا.

المخرج السينمائي يحيى بركات

في لحظة كونية تختلط فيها الأساطير الدينية بالمشاريع الجيوسياسية، وبينما تتصاعد أعمدة النار من غزة، تتحرّك الطائرات والمبادرات والوسطاء، وكأننا في مشهد من مشاهد “نهاية الزمن”… لا كما وردت في الكتب المقدسة، بل كما يُكتب الآن بلغة المصالح، والنفط، والخوف.
الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، العائد من أبواب التاريخ إلى بوابة القوة العظمى، يُرتّب لزيارة مرتقبة إلى منطقة الخليج العربي. زيارة قيل إنها تأتي في سياق “مؤتمر إقليمي”، وقيل إنها تحمل “أجندة اقتصادية”، فيما يراها البعض محاولة للقبض على لحظة سياسية تُمنح له فيها جائزة نوبل على طبق من نارٍ وذهب.
لكن، في الخلفية، تتوالى الوقائع الغريبة:
اتفاق أميركي-حوثي بوساطة عمانية، يُوقف الضربات الأميركية على اليمن، مقابل وقف استهداف السفن في البحر الأحمر… دون الإشارة، ولو لمرة، إلى استهداف الكيان الإسرائيلي أو سفنه.
في المقابل، البيت الأبيض يمنع أي ضربة إسرائيلية لإيران، والمفاوضات النووية تشهد “تقدمًا” يوصف أحيانًا بالإيجابي، رغم استمرار قعقعة السلاح.
تسريبات عن خلاف غير معلن بين ترامب ونتنياهو، بين جناح يسعى للحسم العسكري الكامل، وجناح يريد صفقة تُنهي الحرب في غزة وتُطلق الأسرى، وتعيد رسم المنطقة بأقل قدر من الفوضى.
كل هذا يجري بينما يتفقد السفير الأميركي في الضفة الغربية مزرعة للبقرات الحمراء، وهي ليست “حدثًا زراعيًا” بل نُسخة توراتية عن قرب “الفداء”، وإقامة “الهيكل” كما يقول اللاهوتيون الجدد.
وفي غزة، خطة “مركبات جدعون” تمضي، لا كفكرة بل كمخطط تهجيرٍ معلن، تُجرّب صيغته عبر تصعيد غير مسبوق، وضغط اقتصادي وإنساني، وهدن تتعثر، ومعابر تُغلق، وتهديدات تُلوّح بها أكثر من جبهة.

نحن أمام لحظة غريبة: رئيس أميركي يُمنع من دعم ضربة ضد إيران، بينما يُمنح ضوءًا أخضر لتفقد الرموز الدينية في فلسطين.
يُفاوِض باسم الإنسانية، ويُنسّق مع تحالفات قديمة – خليجية الطابع – ويسعى لتحقيق انتصار تاريخي يعيده إلى سجل العظماء… أو إلى صفحات الكتب المقدسة.
لكن، وكما يقول المثل الفلسطيني:
“اسمع كلامك يعجبني، أشوف أفعالك أستغرب.”

فهل نحن أمام لحظة “صفقة تاريخية” تُكتب بمداد المال والنبوءات، أم نحن داخل متاهةٍ جديدة تُعاد فيها صياغة الخرائط، لا على الورق، بل على جماجم الأطفال وركام المدن؟
ترامب يطير شرقًا، محملًا بطموح نوبل، وخزانة من الوعود القديمة، وبعض الحنين إلى “صفقة القرن”.
لكنه قد يهبط في أرضٍ تغيّرت، فيها غزة تحترق، لكن لا تنكسر، والناس يُصغون لا إلى نبوءات البقر الأحمر، بل إلى أنين العدالة التي أُخِذت رهينة في مجلس الأمن.
وفي مكانٍ ما، في هذا الشرق الحزين، يقف التاريخ ساخرًا، يُدوّن كل شيء:
زيارةٌ لرئيسٍ يهوى المال والمجد، وخرافةٌ تُساق على أنها دبلوماسية،
وجنرالاتٌ يرسمون خطط “جدعون” بينما يسرقون الحليب من البقرة الخامسة.

ربما يوقّع ترامب اتفاقًا، وربما يُصافح الزعماء، وربما يبتسم للكاميرات…
لكن في الجهة الأخرى من الصورة، هناك طفلٌ في غزة يعرف أكثر مما يقوله البيان الختامي.
فـ”الشرق الأوسط الجديد” لا يُصنع في المزارع ولا في المؤتمرات،
بل يولد حين يُكسر الحصار… لا حين يُكرَّس بالخرافة والتطبيع والنبوءات المصنوعة.
وإن كان هذا هو زمن الأبواق، فلنا على الأقل أن نُطلق صفيرنا الأخير… بلحنٍ لا يُنسى.

مقالات ذات صلة