
هل الترامبية ظاهرة سياسية أم حالة شخصية؟
د. مثنى عبد الله
حرير- في كل تصريحاته وخطاباته، سواء في الولاية الأولى أو الحالية، كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا يرى إلا نفسه، ولا يستمع إلا لنفسه، ويسعى لأن يكون العالم اليوم عالمه هو فقط، يقرر فيه ما يشاء ويرفض فيه ما يشاء، من دون أن يكون للآخرين أي دور. حتى يُخيل للسامع أنه يمثل حالة شخصية، فعلى سبيل المثال في خطابه الأخير أمام الكونغرس، وهو الأطول في تاريخ الرئاسة الأمريكية، عرض ترامب تصوراته عن الداخل الأمريكي، وكذلك القضايا الدولية المختلفة، وقد بدت جميعها غير منطقية بشكل عام، وأن التفاصيل التي أوردها تؤكد ما يهتم به هو وحده.
كما أن الحراك السياسي الذي يعمل عليه بأسلوب الدبلوماسية الخشنة، التي تتجاوز الأعراف الدبلوماسية والسياسية، ومشاداته الكلامية مع الرؤساء، والرسائل القاسية، التي يوجهها للحلفاء، هي ملامح للصورة التي يشكلها عن شخصه، ويرغب في أن يكون فيها، كي تراه الأطراف الأخرى التي يخاطبها ويجادلها ويخاصمها، كل ذلك يبدو واضحا في كل الرسائل التي أرسلها منذ يوم التنصيب وحتى الساعة، سواء إلى أوروبا أو كندا أو الشرق الأوسط، والمفارقة الكبرى أن الرئيس الأمريكي ترامب يسعى إلى تحريك كل الملفات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، بطريقة الصفقات التجارية بكل نجاح وبمكسب لطرف واحد هو يمثله.
ولو عدنا مرة أخرى إلى خطابه الأخير أمام الكونغرس الذي تجاوز الساعتين، على طريقة الرؤساء العرب، نجده يؤكد أن منجزاته منذ يوم التنصيب حتى ساعة الخطاب، وهي فترة لا تتجاوز 34 يوما، قد فاقت ما كان قد أنجزه كل من الرئيسين الأمريكيين السابقين أوباما وبايدن، وهو بذلك يحاول الإيحاء لمؤيديه وأنصاره بأنه على الطريق الصحيح، لتطبيق شعاراته، التي لم يتمكن من تحقيقها في الولاية الأولى (أمريكا أولا) و(إعادة أمريكا عظيمة)، وأنه يلعب على هذا الوتر من أجل هدف واحد وهو ملء المشهد واحتكار البطولة لنفسه، خاصة أن الولايات المتحدة اليوم ليس فيها سلطة مضادة له، فقد بات كل شيء بيده حتى الإعلام، ووسائل التواصل بات يستخدمها بترف باذخ، محاولا فرض ما يمكن تسميته بالثورة المُحافظة على كل الأصعدة، من خلال إجراءات عملية تخص المجتمع الأمريكي، وتخص الشؤون الدولية أيضا. في حين لو نظرنا إلى العقود الماضية لوجدنا أنه على الدوام كان الشأن الداخلي الأمريكي، منعزلا عن الشأن الخارجي، حيث كانت السياسة الأمريكية الداخلية تختلف تماما عن السياسة التي ترسمها الولايات المتحدة دوليا، لاعتبارات عدة، منها ما يتعلق بالمجتمع الدولي نفسه والقانون الدولي، وطريقة التعامل مع المؤسسات والدول والحكومات، لكن في عهد ترامب باتت كل هذه الحواجز مفتوحة على مصراعيها.
إن حرص الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على توظيف الداخل الأمريكي في السياسة الخارجية، الهدف منه هو تسويق فكرة أمريكا القوية والأغنى في العالم، وصولا إلى هدف آخر وهو تشويش العلاقات الدولية، لذلك هو يُسخّر ويسوّق للداخل الأمريكي بأن كل أفعاله وما يقوم به على مستوى السياسات الخارجية، هو لتوطيد فكرة أمريكا القوية والغنية، التي سيصبح فيها المواطن في حالة رخاء ورفاه أكبر من أي عهد مضى. وهو في هذا الصدد بات حذرا جدا من ارتكاب الأخطاء، ويسعى لتجاوز الكثير من القصور، الذي بان في ولايته الأولى، ويُحيط نفسه بالعديد من المستشارين، الذين يُديرون الملفات بما يتوافق مع توجهاته وأهوائه، حتى علاقاته مع وسائل الإعلام التي اتسمت بالسلبية القاتمة في الولاية الأولى باتت اليوم تبدو طبيعية جدا.
ومع كل ذلك فواهم جدا من يعتقد أن الترامبية حالة شخصية، تنعكس على سلوك ترامب السياسي اليومي، فتظهر ممارساته بهذا الشكل الفج، وفي طريقة تعامله مع الملفات الاقتصادية والسياسية والعسكرية. فهو يُعبّر عن حالة وعن ظاهرة هو لم يخترعها، فلو أخضعنا تصريحاته وتغريداته وخطبه للتحليل السياسي العلمي لوجدناها استعراضية وميكافيلية وشوفينية، وهذه حالة استبداد سياسي موجودة قديما وحديثا، وحتى استحضاره الخطاب الديني، كما سمعناه في خطاب القسم، حين ادعى بأنه مبعوث من الرب، وأن الله أنقذه من محاولة الاغتيال ليأخذه إلى البيت الأبيض مرة ثانية، لتحقيق إرادته، كلها موجودة في تراث الاستبداد السياسي العالمي. دلائل اخرى على ذلك نجدها في الحاشية المحيطة به، فلم يتورع أيلون ماسك رجل الأعمال المُقرّب منه، من استخدام لغة رثة وغير دبلوماسية، في وصف الشؤون الداخلية لدول مستقلة وحليفة للولايات المتحدة مثل بريطانيا وألمانيا. كما هاجم نائبه جيه دي فانس الحكومات الأوروبية الحليفة للولايات المتحدة في مؤتمر الأمن في ميونيخ، الذي عُقد مؤخرا، متهما إياها بالتخلي عن القيم المشتركة، بسبب قمعها تيارات اليمين المتطرف التي يعرف الجميع بأنها وريثة النازية. وهؤلاء وغيرهم من أعوان ترامب إنما ينتهجون الترامبية كظاهرة سياسية، وليسوا حالات شخصية. إذن نحن أمام ظاهرة سياسية وليست حالة شخصية، وعليه يجب التفريق بين دونالد ترامب الشخص والترامبية كظاهرة سياسية.
إن محاولات ترامب تصدير صورة أمريكا القوية إلى الداخل، سوف يكسبها المزيد من الأعداء، لأن تصريحاته بجعل كندا ولاية أمريكية، والحصول على غرينلاند بطريقة أو بأخرى كما يقول، وتسمية خليج المكسيك بخليج أمريكا، وأخذ غزة من أهلها وتحويلها إلى منتجعات سياحية، كل هذه الأفكار المعطوبة تجعل صورته مقززة أمام العالم، ويجني أعداء كُثر. إذن هو هنا يلعب لعبة ميزان القوى، ويستعرض عناصر القوة التي لديه، وكذلك يمارس الواقعية السياسية الفجة بأبشع صورها وينجح في ذلك، ولذلك رأينا كيف تراجع الرئيس الأوكراني زيلينسكي بعد تلك المُشادة العنيفة معه، وكيف كانت رسالته إعلان استسلام حقيقي بقبوله توقيع اتفاق المعادن، بعد أن شعر الرجل من خلال جولاته على الأوروبيين بأنه لا يمكن سد فراغ الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه هي الحقيقة.
يقينا أن ترامب يلعب على أوتار عديدة، ويعلم جيدا نقاط ضعف العدو، وفي كل هذا هو يطبق نظرية كيسنجر مستشار الأمن القومي الأسبق التي تقول، إذا كان على أعداء أمريكا أن يخشوها، فعلى أصدقاء أمريكا أن يخشوها أكثر. إذن نحن أمام أسلوب فج في التعاطي السياسي، سينعكس على شكل إحباط عند البعض في العالم، خاصة الحلفاء، وربما لدى الآخرين سينعكس على شكل نوع من الرفض، أو ربما نوع من المقاومة، لكن الأمل الأكبر هو أن تستيقظ أوروبا وتخرج من نطاق التبعية للولايات المتحدة لأنها ليست دائمية. وعندما تعتمد أوروبا على نفسها فلربما يقود ذلك إلى خلق بعض التوازنات في العلاقات الدولية.