خطر انفجار لبنان

عبد الحليم قنديل

حرير- عقب عيد الفطر المبارك، تعود مورغان أورتاغوس إلى بيروت، وهي نائبة المبعوث الأمريكي الحالي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، وخليفة آموس هوكشتين الضابط الإسرائيلي والمبعوث الأمريكي السابق إلى لبنان، ومورغان سيدة أربعينية فائقة الجمال، فازت في شبابها في مسابقات محلية لملكات الجمال في ولاية فلوريدا، بينها ملكة جمال الحمضيات وملكة جمال زهرة البرتقال، وقد نشأت في أسرة إنجيلية متعصبة، وتحولت قبل نحو عشرين سنة إلى اليهودية، وتعودت على ارتداء خواتم وقلادات مزينة بنجمة داود، وتعتبر نفسها في مهمة رسولية في لبنان، وقد سبق لها أن انتقدت دونالد ترامب عند ترشحه الأول عام 2016، وكان رأيها قاسيا في سلوكه الشخصي المتفلت تجاه النساء بالذات، لكنها كدبلوماسية غيرت رأيها في ما بعد، وجرى تعيينها في فريق مايك بومبيو وزير خارجية ترامب، زمن ولايته الأولى، وتفاخرت بدورها المتواضع في كواليس عقد اتفاقات أبراهام، مع عدد من الدول العربية عام 2020، وسنحت لها الفرصة على نحو أكبر مع اختيارها في فريق ترامب الخارجي بولايته الحالية، وفي فريق الشرق الأوسط الذي يوصف إسرائيليا بأنه فريق أحلام إسرائيلي، بدءا من وزير الخارجية ماركو روبيو، إلى مايك هاكابي سفير واشنطن في إسرائيل، مرورا بمبعوثي ترامب إلى الشرق الأوسط، وكلهم صهاينة مسيحيون أو يهود.

وتعتبر مورغان نفسها ـ على ما يبدو ـ نجمة الفريق صارخ النزعة الإسرائيلية، وهدفها في لبنان ظاهر، منذ أول ظهور لها في قصر بعبدا الرئاسي قبل نحو شهرين، وحينها أعلنت افتخارها بما سمته نجاح الحليفة إسرائيل في هزيمة حزب الله، وكشفت رغبتها الأمريكية في منع مشاركة حزب الله في حكومة نواف سلام، وهو ما لقي امتعاضا وقتها، في بيان صدر باسم الرئيس اللبناني الجديد الجنرال جوزيف عون، ثم بدا أن رئيس الحكومة الجديد نواف سلام يمانع في تلبية أوامر أورتاغوس، ويشرك حزب الله بوزيرين مقربين منه ضمن خمسة وزراء شيعة في الحكومة القائمة اليوم.

وبالطبع، لم تيأس أورتاغوس، وراحت تغض الطرف عن مئات الانتهاكات الإسرائيلية لاتفاق وقف إطلاق النار على جبهة لبنان، الموقع أواخر نوفمبر 2024، وتلكأت إسرائيل في الوفاء بمقتضياته، وأولها نصه على الانسحاب الإسرائيلي الكامل من جنوب لبنان في مدى شهرين، وجرى التمديد لوقت إضافي حتى 18 فبراير 2025، وحين انتهى الوقت الإضافي، انسحبت إسرائيل من قرى الحافة الجنوبية، بعد تدميرها، لكنها احتفظت بالسيطرة العسكرية على خمسة تلال استراتيجية على الحدود، شكلت في مجموعها وامتدادها منطقة عازلة تحت الاحتلال، وهنا جاءت المناورة المخادعة الثانية، التي تقودها أورتاغوس، فقد جرى الاتفاق على تشكيل لجان عسكرية ودبلوماسية من الطرفين الإسرائيلي واللبناني بإشراف أمريكي، وبهدف معلن هو الاتفاق على ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل، وبحث الخلافات حول 13 نقطة في المسافة الفاصلة بين الخط الأزرق المقر بنص القرار الأممي 1701 الصادر عقب حرب 2006، والحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية المقرة بمقتضى اتفاق الهدنة عام 1949، مع تلويح ظاهر بأن شبرا محتلا لن يعاد إلى لبنان، إلا إذا وقعت بيروت على اتفاق تطبيع مع إسرائيل، على طريقة اتفاقات أبراهام سيئة الصيت، وهو ما يثير جدلا عنيفا خطرا داخل الساحة اللبنانية، فالقانون اللبناني لا يزال يجرم ويحرم كل اتصال مع إسرائيل والإسرائيليين، ويعتبره من أعمال الجاسوسية والخيانة العظمى، وطبيعي أن يتمسك حزب الله وتيارات الوطنيين اللبنانيين برفض التطبيع، بينما تسعى جماعات لبنانية أخرى إلى العكس، وتجاهر بالرغبة في عقد اتفاق سلام وتطبيع مع إسرائيل، أسوة بدول عربية أخرى، بينما تتحفظ الدوائر الرسمية قليلا، ويؤكد بعضها على الطابع التقني العسكري لمفاوضات ترسيم الحدود المزمعة، وإن كان للقصة اللبنانية وجوه التباس أخرى، فأغلب الأحزاب لها صفة شبه رسمية، وهي مشاركة بالنسب الطائفية المقررة في تشكيل حكومة نواف سلام، التي خلا بيانها الوزاري من صيغة (الشعب والجيش والمقاومة)، وأكد على ما يسمى احتكار الدولة الحصري للسلاح، وهو ما يعني ببساطة، أنه لا مكان للمقاومة الشعبية، حتى مع استمرار وتجدد احتلال أجزاء من الجنوب اللبناني، وحتى مع العربدة الإسرائيلية اليومية، وشن غارات قتل مئات المواطنين وعناصر حزب الله، وامتناع الحزب عن الرد، بدعوى تفويت الفرصة على المتربصين بسلاح المقاومة، وإتاحة السبيل للدولة اللبنانية لتقوم بدورها في الدفاع عن سيادة لبنان، مع التأكيد على مبدأ أن وجود الاحتلال يعطي شرعية الحق الوطني اللبناني في المقاومة لكل قادر على حمل السلاح، خصوصا مع تواضع قدرات الجيش اللبناني، وعجزه عن خوض أي حرب مع العدو الإسرائيلي، والحرص الأمريكي الدائم على منع تزويد الجيش اللبناني بالطائرات المقاتلة وبالصواريخ وبأنظمة الدفاع الجوي بالذات، وتوجيه المعونة الأمريكية السنوية (95 مليون دولار) للملابس وللرواتب وللذخائر الدنيا، ومنع الجيش اللبناني حتى من التزود والاحتفاظ بمخازن سلاح حزب الله التي تسلمها في جنوب الليطاني بمقتضى اتفاق وقف النار والقرار 1701، واشتراط واشنطن تدمير أسلحة حزب الله ضمانا لسلامة إسرائيل، وهو ما يدرك حزب الله مغزاه، ويسعى لتجنب أي صدام مع الجيش اللبناني الرسمي، ويعول على مناقشة لاحقة موعود بها لاستراتيجية الدفاع عن لبنان، فيما يترك الآخرون أصل القصة المتمثلة في ضعف الجيش، ومنع تسليحه بقرار الأصدقاء والرعاة الدوليين، ويريدون ـ فقط ـ نزع سلاح حزب الله شمال نهر الليطاني كما جنوبه، ولا مانع عندهم في الاستعانة بالضغط الأمريكي على الرئاسة والحكومة معا، مع الاستعانة بالتدخل العسكري الإسرائيلي لتحقيق الهدف نفسه، ويرغبون بإعطاء مهلة أخيرة لنزع سلاح حزب الله لا تتعدى الشهرين، وبدعوى أن القرار 1701 يتضمن نزع سلاح حزب الله بالكامل، وأن اتفاق الطائف يلزم بذلك، مع أن الطائف نص على نزع سلاح ميليشيات شاركت في الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1989 )، ولم يكن بينها حزب الله، الذي ظهر كحركة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي أواسط الثمانينيات، ثم إن اتفاق الطائف أكد على الحق في مقاومة الاحتلال، وهو ما يستند إليه حزب الله اليوم، وهو يعلن التزامه بسقف الطائف، الذي لم تطبق حتى اليوم نصوصه الخاصة بإلغاء الطائفية السياسية، لكن الجدال اليوم، لا يتعلق باتفاق الطائف ولا بغيره، فالوصاية الأمريكية الراهنة على لبنان، تريد مصلحة إسرائيل أولا، وتهدد بمواصلة خنق لبنان اقتصاديا، وحجب المعونات الدولية اللازمة لإنقاذه، ما لم يتم نزع سلاح حزب الله فورا، وهذا هو محور الصراخ اليومي في لبنان الآن، فجماعات الولاء الإسرائيلي اللبنانية تنادي بأولوية تفكيك سلاح حزب الله وجناحه العسكري وترسانة أسلحته الصاروخية بالذات، وهو ما يبدو مدعوما اليوم بإشارات حكومية ظاهرة، تعدت تصريحات منسوبة لوزير الخارجية يوسف رجى، الأقرب لحزب القوات اللبنانية المتهم بنزعته الإسرائيلية، إلى تصريحات لافتة لرئيس الحكومة نفسه، الذي قال أخيرا، إن صفحة سلاح حزب الله طويت.

وبالجملة، تبدو مواعيد انفجار الداخل اللبناني أقرب، وبالذات مع إنذارات أورتاغوس، ومهمتها الرسولية اليهودية الصهيونية في لبنان، وقيادتها لحملة أمريكية برائحة إسرائيلية نفاذة، وبطاعة تلقائية من عواصم عربية عندها مفاتيح دعم لبنان بعشرات مليارات الدولارات، ويعملون جميعا كرؤوس حراب، موجهة كلها لطعن حزب الله، وطعن لبنان كدولة هشة بتركيب سياسي طائفي، إن لم يقم بالواجب، ويعلن الحرب بلا إبطاء ولا هوادة ضد حزب الله، وربما ضد الطائفة الشيعية اللبنانية المتهمة في أغلبها بالولاء للتقليد والسياسة الإيرانية، وهو ما قد يقود إلى احتقان طائفي خطر، يؤدي ـ لا قدر الله ـ إلى انفجار حرب أهلية لبنانية جديدة، وإلى زج الجيش اللبناني في معركة طاحنة مع جماعة حزب الله، ليس متصورا أن يفوز بها الجيش بموازينه الطائفية وتركيبه الحرج، والضعف البادي في تسليحه، وقد حدث شيء من ذلك في بداية سبعينيات القرن العشرين، حين اشتبك الجيش اللبناني مع جماعات المقاومة الفلسطينية القادمة وقتها من الأردن، وكانت الواقعة مع مضاعفاتها من أسباب نشوب الحرب الأهلية عام 1975، وهو ما نخشى تكراره اليوم، بالذات مع اشتداد الضغوط الخارجية على لبنان الصغير المأزوم بشدة، ومع مخاطر العودة إلى أجواء ما بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، وتوريط أطراف لبنانية في توقيع اتفاق سلام 17 مايو 1983، وما تبعه من اغتيال صاحبه بشير الجميل قائد تنظيم القوات اللبنانية وقتها، ثم تبلور وصعود ظاهرة حزب الله.

مقالات ذات صلة