لا لإسكات صوت الحرية

بيير لوي ريمون

حرير- أدعوكم بداية في مقال اليوم إلى معزوفة موسيقية تعيدني إلى أيام الصبا.. معزوفة أتذكرها جيدا. كنت التقطها من مذياعي الصغير في طفولتي في أغادير المغربية، وطلائع الصباح تبدأ في تلوين كبد السماء ببقع مخضبة لشمس طالعة. بصيغة الأوركسترا أولا، ثم بصيغة أقصر مسجلة من الاستوديو كنت أسمعها، تلك الموسيقى الآتية من بعيد، من بعيد جداً، ثم تتبعها أخبار بالعربية.

كنت في حوالي الخامسة عشرة من عمري، لم تتبين لي طبعا رهانات الوسيلة الإعلامية المعنية حينها، لكن ما كنت أتلقفه كان مذهلا وثريا وخارقا للمعتاد.. فلم تكن المعزوفة سوى أنغام النشيد الوطني الأمريكي.

«صوت أمريكا».. منذ فترة الطفولة كنت أستوعب الأمر جيدا، إذاعة أمريكية تتحدث بالعربية… مسلك مهيأ تماما ليجول بك في عوالم غير مطروقة.. غير مطروقة من طفل يقلب زر مذياعه الصغير، عله يظفر ببرنامج شيق وهو يستقبل بواكير الصباح.. لكن ليس مجرد عهد الذكريات هو الذي ولّى، بل عهد صوت ليبرالي كان يبث عكس ذلك الذي تتهمه به الإدارة الأمريكية الجديدة: البروباغندا.

كلنا صدم في الوسط الإعلامي بهذا الاستهداف المقصود، المندرج في سلسلة أهداف مقصودة، تتالت بتتالي توقيع «الأوامر التنفيذية» من المكتب البيضاوي، كما توقع صفقات بيع المنازل من المكتب العقاري.

وهكذا، صدر عن وكالة الولايات المتحدة للإعلام العالمي (Us Agency for Global Media) بيان وضع إسفينا في نعش استقلاليتها. فها نحن عدنا إلى عهد مكارثي ومعاداة الشيوعية لكن بصيغة أخرى: «معاداة كل ما يمكن من إيصال مبادئ الحرية إلى بر الأمان». لن نستغرب أيضا من عملية فصل العاملين في إذاعة «أوروبا الحرة»Free Europe التي تدخل في السياق نفسه.

انطلق بث «صوت أمريكا» والحرب العالمية الثانية لم تنته بعد، فشمل بالتدريج القارات الثلاث: آسيا أولا، ثم أوروبا عن طريق تجهيزات «بي بي سي»، ثم الشرق الأوسط الذي بدأ فيه البث سنة 1947.. 48 لغة، 360 مليون مستمع. لا نحتاج أكثر للإقرار بأن «صوت أمريكا» قد دخل ما اصطلح الفلاسفة على تسميته بالـ»نزعة الكلية»، التي تنخرط فيها أيضا «نزعة الإنسناوية» (humanism) .

حديث رجال الأعمال، عن قطع التمويلات لا يبشر بالخير أبدا، بل ما يبشر به دائما حديث رجل الأعمال عن قطع الاعتمادات المالية، تجسيد خط أيديولوجي تبرز حوله من كل حدب وصوب أحجار عثرة ما لم تسع لتطبيقه. وهنا يجب أن ننتبه جيدا إلى أن عهد الحرية مهدد، في زمن كنا نعتقد فيه أنه مكسب لا يحتمل التراجع. وهنا أيضا نلمس نقطة ضعف وسائل التواصل الجديدة، فإذا كانت بالفعالية ذاتها التي نعتقدها، ما كان أحد ليقلق من تأثير الإذاعة في زمن يكرس سيادة الشاشة.

الإذاعة أرست إمكانية قيام نظام خطاب حر لا يأبه بالنظام العالمي الجديد، ولا القديم. الإذاعة صوت، والحرية صوت أولا قبل أن تكون صورة.. فلا لإسكات صوت الحرية.

مقالات ذات صلة