خط الفقر”.. إحصاء أم تضليل؟.. أحمد أبو خليل

 أثار ورود رقم “خط الفقر” في الأردن على لسان وزيرة الإعلام الناطق الرسمي باسم الحكومة جمانة غنيمات في مقابلة تلفزيونية قبل أيام، نقاشا واسعاً بين المواطنين على منصات التواصل الاجتماعي وعلى بعض وسائل الإعلام.

الوزيرة أوردت في المقابلة، آخر رقم معلن وهو 365 دينارا للأسرة شهريا، والرقم مبني على مسح العام 2010 وأعلن عنه رسمياً في نهاية العام 2012.
السطور التالية سوف تدافع عن فكرة أن الرقم مثله مثل كثير من أرقام الدراسات الإحصائية لا قيمة له على صعيد الإعلام الموجه للجمهور، وهو رقم فني بحت يخدم كمؤشر للقياس والإحصاء فقط.
إن المواطن يستغرب وعن حق، أن مبلغ 365 دينارا كدخل شهري للأسرة يعني أن صاحبه تجاوز حدود الفقر، كما يوحي بذلك الخطاب الرسمي المعتاد.
ولكن قبل ذلك دعونا نتعرف على منهج التوصل إلى هذا الرقم.
هذا الرقم يقيس مجموعتين من الاحتياجات البشرية: المجموعة الأولى تضم الحاجات الضرورية للبقاء على قيد الحياة، وهو ما يعرف بخط فقر الغذاء أو الفقر المدقع (الطعام والشراب)، والمجموعة الثانية تضم ما يسمى الحاجات الأساسية الأخرى كالصحة والتعليم والمواصلات والسكن.
تقوم دائرة الإحصاءات العامة بإجراء مسح إحصائي عام للسكان يسمى “مسح النفقات والدخل” ويشمل كل السكان بغض النظر عن دخلهم (ومؤخرا شمل غير الأردنيين أيضا). ثم يجري تقسيم المجتمع إلى عشر فئات (عشريات)، ولغايات دراسة الفقراء تُدرس بيانات أدنى ثلاث عشريات (في آخر إحصاء مثلاً).
ولكن كيف تُحسب الاحتياجات الغذائية وغير الغذائية للإنسان الأردني؟ ثم كيف تحول إلى مبالغ مالية؟
هنا يجري التعامل مع ما يمكن أن نسميه مواطن مخبري (في مختبر). فبالنسبة للاحتياجات الغذائية، يجري حساب عدد السعرات الحرارية اللازمة للبقاء، وفق مقاييس منظمة الصحة العالمية، ويحسب ذلك بناء على وزن الجسم وطول صاحبه وعمره وجنسه، وتؤخذ المعدلات لهذه الأرقام. ثم يجري التعرف على خصوصية الغذاء للمواطن الأردني ومكوناته، مع ملاحظة الاختلاف بين المدينة والقرية، وذلك باحتساب سلة غذاء يفترض أنها ممثلة لسلوك المواطنين الأردنيين، وتقاس أسعارها في أزمان ومواقع متفاوتة.
بطريقة مماثلة، يجري حساب السلع والخدمات الأخرى التي تسمى أساسية غير غذائية، من خلال التعرف على أسعار خدمات التعليم والمواصلات والسكن والصحة مع مراعاة اختلاف المواقع.
وكما أشير سابقا، فإنه لغايات حساب سلة الفقراء من مجموعتي الأرقام تلك (أي من الغذاء وغير الغذاء) يجري الاعتماد على العشريات الثلاث الأدنى.
هذا يعني أن الأرقام تتعامل مع “مواطن افتراضي” إلى حد ما، ثم مع “أسرة افتراضية” تتكون كمعدل من 5.4 فرد وهذا هو المعدل العام لعدد أفراد الأسرة في الأردن.
الافتراض لا يتوقف هنا، فالعملية الحسابية تتعامل مع فرد يسلك سلوكا رشيدا وفق تعريف “الرشاد الاقتصادي”، الذي يعني أن الفرد لديه المعلومات الضرورية والكافية عن السوق وعن الأسعار ولديه الامكانية لاتخاذ القرار الاستهلاكي الأقل كلفة، بما في ذلك ما يتعلق بالسعرات الحرارية ومصادرها..
كما تلاحظون، فإن عملية الحساب افتراضية إلى درجة كبيرة، والرقم لا يعني أن الأسرة المكونة من 5.4 فردا إذا كانت تحصل على دخل يساوي 365 ديناراً هي حكما أسرة تقع خارج خط الفقر. إن الأرقام هي مجرد عمل تقني بحت ولا دلالة واقعية يومية له. إنه رقم لغايات الإحصاء فقط.
في هذه الحدود، فإن الرقم ليس كاذباً، (بمعنى أنه لا يوجد هناك رقم آخر أكثر صدقاً ومخفي)، ولكن مصداقية هذا الرقم المعلن مربوطة فقط ومباشرة وحصرياً، بالتعريفات وبالمنهجية المتبعة في الحساب، ولهذا فإن فائدته لا تتعدى كونه مجرد مؤشر يخدم المخطط وصاحب القرار ولا قيمة “جماهيرية” له، ومن حق الجمهور ان يستغربه، ويتعامل معه كتضليل إعلامي، لأن المواطن يتعامل مع يوميات واقعية تدحض الرقم وفق كل المقاييس.
مع هذا، فالجميع يقر أن الرقم أصبح قديما ولم يعد صالحا حتى كمؤشر تقني. وما حصل أن دائرة الإحصاءات أجرت كالعادة المسح الاعتيادي العام 2012 وكان جاهزا للإعلان العام 2014 ولكنه توقف (يجري المسح كل سنتين، وتعلن النتائج بعد سنتين من زمن كل مسح، لأن الحساب معقد ويحتاج فعلا لكثير من الوقت).
خلال الفترة التي تلت الامتناع عن إعلان النتائج العام 2014، ارتبك خطاب الحكومة ممثلة أساسا بوزارة التخطيط (كون دائرة الإحساءات العامة تتبع لهذه الوزارة)، فقيل أن الوزارة اكتشفت أن المنهجية لم تعد مناسبة، وقيل عن ضرورة حساب غير الأردنيين ضمن نسب الفقر، نظرا لحجمهم الكبير من السكان، وهناك من ربط الأمر بقضايا المنح الخارجية… وغير ذلك. غير أنه تسربت معلومات لم تنفها الوزارة عن نسب فقر أعلى وعن خط فقر أعلى أيضاً (راجع تقارير الزميلة سماح بيبرس في صحيفة الغد حول الموضوع).
ولكن ماذا عن الخطاب الإعلامي الموجه للجمهور عن الفقر؟
الواقع أن هناك عدم ثقة في الخطاب الرسمي حول الفقر، وهذا أمر مفهوم ومستوعب. إن مفهوم الفقر مستخدم إعلاميا وفي الكلام الدارج أيضا وبشكل واسع، وليس مطلوباً من الجمهور أن يتوخى الدقة الأكاديمية في استخدام أو استقبال، وخاصة بالنسبة لجمهور الذي يعتبر نفسه فقيرا أو مهددا بالفقر.
لعل من المفارقات التي تلعب دورا هنا، أن رغم ان الفقر أمر مكروه ولا يتمنى أحد أن يقع فيه، لكن الجميع بمن فيهم الأغنياء يحبون أن ينتموا سياسيا وإعلاميا إلى الفقراء! أو على الأقل هناك ميل للدفاع عن الفقراء كقيمة أخلاقية. مع ملاحظة أن هناك طيفا واسعا من المفردات الموازية مثل “الطفرانين” و”الكحيانين” و”الغلبانين” و”المسحوقين”… وغيرها.
وعندما تتوجه بالسؤال إلى المشرفين على الأرقام في دائرة الإحصاءات والوزارات ذات العلاقة، فإن الجواب أن الرقم صحيح وفق المنهجية المتبعة. وهذا الجواب منطقي ولكنه يفتح بالضرورة السؤال حول هذه “المنهجية”.
ما يحصل أن مفردة “الفقر” تستخدم بمعانيها الواسعة “المفهومة  عند الجمهور”، حتى من قبل الرسميين (وزراء ونواب مثلا) كما تستخدم في وسائل الإعلام في التغطيات الصحفية والتحقيقات ورسائل المحافظات وفي المقالات والأخبار، من دون الالتزام بالتعريف المعتمد في حساب خط الفقر، ولهذا يستغرب الجمهور الأرقام المعلنة، لأن قسما كبيرا من هذا الجمهور يشمله خطاب الفقر الواسع ولكن الرقم الرسمي يستثنيه ويخرجه من دائرة الفقراء. ولهذا فهو بالنسبة إليه مجرد تضليل.

مقالات ذات صلة