هل ستتوسل إيران بالواقعية السياسية درءا لمخاطر ترامب؟

مثنى عبد الله

حرير- يقينا أن القارئ للسياسة الخارجية الإيرانية منذ عام 1979 إلى الآن، يرى أن الرؤية الأيديولوجية العقائدية التقليدية، التي يمثلها الحرس الثوري والولي الفقيه الإيراني، توجد إلى جانبها رؤية أخرى ديناميكية براغماتية تسمى بالواقعية السياسية. وطوال هذه العقود من الزمن بقيت هذا المساحة موجودة لدى إيران، من التصعيد والتشدد ممثلا بالرئيس الأسبق أحمدي نجاد، إلى الانفتاح على أوروبا ممثلا بالرئيس الأسبق روحاني.

ولعل أبرز مثال على هذا السلوك السياسي هو قيام النظام الإيراني بالتوقيع على الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة (الشيطان الأكبر) في عام 2015. ومنذ الانقلاب الداخلي الذي كان عنوانه وصول الرئيس السابق إبراهيم رئيسي، الذي توفي في حادث سقوط الطائرة، ونحن نرى علامات على وجود هذه الازدواجية، ووجود هذه الرغبة في فكرة أن إيران جزءين وليست جزءا واحدا، وإن المشكلة الحقيقية هي الحرس الثوري داخل إيران، وليست إيران بشكل عام.

وكان لافتا للنظر تقرير صادر عن المرشد الأعلى قال فيه، إن الرد على إسرائيل سيكون عبر الجيش الإيراني والحرس الثوري وليس فقط الحرس الثوري. وكأنّها محاولة منه أو إشارة إلى أن الرؤى متوحدة في إيران في موضوع إسرائيل. لذلك من غير المنطقي أن نقول دائما بأن إيران تتبع بوصلة واحدة في السياسة الخارجية. نعم هي دولة أولا، وعقيدة ثانيا لكن ما هو أهم في بوصلة السياسة الخارجية لديها، هو أن مصالح الدولة الإيرانية دائما ما تكون لها الأولوية على العقيدة التقليدية الأيديولوجية. ومن الواضح جدا أنه منذ وصول الإدارة الحالية في إيران هناك تغيرات كبيرة، هناك مساحات للدبلوماسية واسعة، هناك لغة غير مطروقة سابقا، هناك ظريف وزير الخارجية الأسبق، الذي أرسل رسائل واضحة وكبيرة في فكرة التفاهمات على حساب الصدامات، وهناك تحرك لرئيس إيراني واضح أنه منذ ظهوره في الأمم المتحدة، ونحن نرى خطوات غير مُعلنة، ولكنها تشير إلى نوع من أنواع التنازلات الإيرانية في كثير من الأمور، وكل هذا يعني أن هناك فريقا يريد أن يعبر بإيران بهذه المرحلة لإنها مرحلة حساسة جدا. وعندما نرى أن كل هذه الخطوات قد قامت بها إيران، فهذا يعني، أنه لا بد من أن يكون هناك عائد إيراني منها، وهذه هي عملية البحث عن المكتسبات، لذا يبدو أن هناك مساحة كبيرة لإيران مقابلة لإرسال هذه الرسائل للتكيف مع هذا الواقع. وقبول الخسارة لن تقبلها عبر الشعارات، لكن كما نرى أن هناك محاولة لإظهار أن إيران هي دولة ليست فقط موجودة في هذه المنطقة. لذلك صفّرت خلافاتها مع السعودية وحاولت تصفير خلافاتها مع المحيط. وحاولت أرسال رسائل إنها ليست فقط دولة تصعيد، بل يمكن أن تكون دولة تفاهمات أيضا، بمعنى أن إيران دولة براغماتية ستهتم بمصالحها لأنها تعلم مدى الأخطار المحدقة بها. من هنا لا يمكن استبعاد أن نشهد بعض التفاهمات الدبلوماسية وبعض التنازلات الإيرانية بالنسبة للملف النووي، وربما هنالك ثلاثة خيارات لصانع القرار الإيراني مع قدوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، الأول هو عسكرة البرنامج النووي، وهذا الخيار يمكن أن يؤدي إلى حرب مع الولايات المتحدة وإسرائيل. وهناك عدة تقارير من داخل البيت الأبيض ومن الفريق الأمني الأمريكي، تقول إنه يتم الآن التحضير لهذا السيناريو. الخيار الثاني هو الوصول إلى تفاهمات سياسية ودبلوماسية مع إدارة ترامب وبالفعل بدأت الرسائل بين الطرفين. أما الخيار الثالث فهو البقاء في المرحلة نفسها، أي تخصيب اليورانيوم من قبل إيران. وهذا الخيار خطير للغاية، لأن نتنياهو يحاول جر إدارة ترامب إلى حرب مع إيران، ومع ذلك يمكن أن يكون هنالك اختراق في الملف النووي بين إيران والولايات المتحدة في الأشهر المقبلة، لأن الخيارات الأخرى كارثية ليست فقط على إيران ولكن على كل دول المنطقة. كما أن إيران بعد خسارة سوريا هي ليست إيران ما قبل ذلك، هي اليوم تشعر بالقلق من أن تُحفّز هذه الخسارة الآخرين لتوجيه المزيد من الطعنات لها، وقد انعكس هذا الشعور على علاقاتها مع مُحيطها، فالحدث الأكبر الذي حصل في سوريا وضعها في معادلة أمام تركيا. وهي اليوم باتت تعاني من فقدان الثقة بأنقرة، كما فقدت الثقة بروسيا أيضا، رغم اتفاقية التعاون الاستراتيجي، التي وقعها الطرفان مؤخرا، ورأينا في الأسابيع الماضية حجم التصريحات المتناقضة، عندما بدأ بوتين بها وقال طُلب منا نقل مقاتلين إيرانيين من قاعدة حميميم، لكن طهران نفت ذلك وتحدث جنرال إيراني عن أن روسيا هي التي تسببت في سقوط الأسد، لعدم رغبتها في المواجهة وأغلقت الرادارات.

هذا المناخ يشير إلى أن إيران تحاول لملمة الخسارة، خاصة أن تحالفاتها اليوم هي ليست تحالفات وازنة، فعلى سبيل المثال تركيا وجدت ذاتها في سوريا، ولا ترغب في أن تكون شريكا حقيقيا لإيران في أماكن أخرى. كما أن (حلف المقاومة) لم يعد موجودا بعد أن تقطّعت أوصاله، لذلك لم يبق سوى صوت المرشد الأعلى، تارة يحاول أن يُشعل جبهة لبنان، وتارة يُحرّض ضد سوريا، وثالثة يتحدث عن العراق ويرسم له طريقه كما يريد هو. لكن على أرض الواقع واضح أن هناك في إيران تيار بدء يدرك خطورة هذه السياسة، وأن من الأفضل في هذه المرحلة البحث عن تفاهمات. ويبدو نحن اليوم أمام نوع من التكيّف الإيراني حتى مع الدول الأوروبية وليس فقط مع الولايات المتحدة. فالاعتقاد السائد أنه لأول مرة إيران يمكن أن تكون أمام سيناريو حقيقي في فكرة المواجهة، وليس فقط كما تريده إسرائيل بل أيضا كما تريده أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، أيضا يبدو أن إيران تستعد لمواجهة فكرة نقل الأزمة إلى الداخل الإيراني، وبالتالي ستضطر إلى مواجهة الداخل، وهنا لا بد من الإشارة إلى حديث للرئيس الإيراني، الذي يقول فيه إن إيران يمكن أن تُقسّم في حال انتقلت لها الأزمة، وهذا يعني أنهم باتوا يدركون أن مناخات الحرب اليوم هي مناخات قوية ورياحها ربما تطيح بالنظام نفسه.

أخيرا على إيران أن لا تخطئ وأن لا تُجرم بحق دول المحيط، كما فعلت طوال أكثر من أربعة عقود. نعم هذا يوم مؤلم جدا لها في ظل خسارات فادحة أنتجتها مسارات كارثية، وإذا أرادت أن تصبح دولة مُحترمة فعليها أن تعود إلى موقعها الطبيعي كدولة من دول المنطقة، وأن تتخلى عن مهنة تحدي سيادات الدول والتلاعب بالنسيج الوطني للمجتمعات المجاورة.

مقالات ذات صلة