لماذا الملونون..!؟

علاء الدين أبو زينة

حرير- ذات مرة، استضفت زائرين أجنبيين في الأردن؛ زوجاً سويسرياً أبيض وزجته البيروفية الحنطية. ولكسر الجليد في اللقاء الأول، مازحت البيروفية وقلت إننا أقارب ومعارف قدماء. كنت أقصد أننا أقارب بحكم اللون والماضي الكولنيالي المشترك. وعلى عكس ما توقعت، فهت السيدة البيروفية ما قصدتُ بلا توضيح. وسرعان ما ذاب أي جليد وحفل الحديث بالمزاح مع الزوج الأوروبي الأبيض من موقع خبرتنا المشتركة مع الأوروبيين، وكأقارب حقيقيين ومعارف قدماء يتحدثون بلغة واحدة مفهومة.

عززت تلك التجربة التصورات عن «القرابة الطبيعية» التي تجمع ضحايا الاستعمار، والتي تتجلى في تعاطف مواطني «العالم الثالث» والمضطهدين مع بعضهم بعضاً. ثمة الآن، على سبيل المثال، الوقفة العظيمة التي تقفها جنوب أفريقيا مع الفلسطينيين، وتضامن حركات مثل «حياة السود مهمة» مع القضية الفلسطينية، والعكس. وهناك تعاطفنا، نحن العرب، مع اللاتينيين والأفارقة في مواجهة القوى نفسها التي ما تزال تستهدفنا معاً.

لذلك، ثمة شيء مزعج بشكل خاص لدى رؤية سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ذات الأصل الأفريقي -ونائبها حين تغيب، من الأصل نفسه- حين يرفعان أيديهما لنقض القرارات المتعلقة بفلسطين. وهما يلفتان انتباهاً خاصاً باعتبارهما الأشخاص الذين يرفعون أيديهم لنقض أي قرار قد يخفف شيئاً من الظلم -الذي يصل إلى الإبادة الجماعية الصريحة- عن شركاء في الماضي الكولنيالي المشترك. ويبرز سؤال، ربما يكون مبعثه عاطفياً أكثر من كونه عملياً: لماذا يتم اختيار هؤلاء للدفاع عن سياسات أميركية لا يمكن تبريرها، وكيف يقبلون بالتعبير عن هذه السياسات؟

المشكلة هي أن الأميركيين من أصل أفريقي ما يزالون يعانون من التمييز في البلد الذي انتزع أجدادهم من أوطانهم واستعبدهم وعاملهم ككائنات أقل من بشر. وما تزال الأدبيات الاجتماعية في أميركا تتحدث عن استمرار التمييز وعقد المقارنات بين أوضاع الأميركيين البيض ومواطنيهم السود أو الملونين -من آخر ذلك قضية جورج فلويد. وقد ضغط الشرطي، ديريك شوفين، بركبته على عنق فلويد لمدة تجاوزت تسع دقائق أثناء توقيفه. وكان فلويد يصرخ: «لا أستطيع التنفس»، لتصبح صرخته شعاراً لكل الذين لا يستطيعون التنفس تحت ضغط القمع الوحشي والعنصرية الممنهجة، في كل مكان ومن كل نوع.

في أميركا، وصل قلة من الملونين إلى مناصب رفيعة في الحكومة، بطريقة تريد أن تعكس الحديث التاريخي عن أميركا باعتبارها «أرض الفرصة». لكن مسيرتهم المهنية كشفت غالباً عن مفارقة محزنة: أفراد من مجتمعات عانت تاريخياً من الإمبريالية والعنصرية يقفون الآن في مقدمة الصفوف لتبرير السياسات نفسها التي تمثل امتداداً للأنظمة ذاتها التي اضطهدت أجدادهم، وما تزال تضطهد أمثالهم.

نتذكر، نحن العرب، كولن باول، صاحب الأصول الأفريقية-الجامايكية الذي لعب دوراً لا يُنسى في غزو العراق. وكان خطابه الشهير أمام مجلس الأمن في العام 2003، المُنشأ على معلومات زائفة حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، سبباً رئيسياً في تبرير تلك الحرب الكارثية التي غيرت مصير المنطقة بلا رجعة. ونتذكر كوندوليزا رايس؛ الأميركية ذات الأصول الأفريقية، التي كانت من أبرز المدافعين عن «الحرب على الإرهاب»، وبررت بلا كلل التدخلات العسكرية في العراق وأفغانستان، وساهمت في زعزعة استقرار منطقتنا ومصرع مئات الآلاف من الأبرياء.

نتذكر نيكي هايلي مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة في العهد الأول لدونالد ترامب، ابنة مهاجرين من المستعمرة البريطانية السابقة، الهند. وتميزت شريكتنا في الماضي الكولنيالي بدفاعها الشرس عن السياسات الأميركية المؤيدة للكيان الصهيوني، بما في ذلك نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وما شكله ذلك من ضربة قاسية لحقوق الفلسطينيين والإجماع الدولي. وهناك بالتأكيد كامالا هاريس؛ نائبة «جو الإبادة الجماعية» المشاركة في الإبادة الوحشية الحالية للفلسطينيين.

وهناك الوجه الأكثر حضوراً وبلاغة في التعبير اللفظي -والجسدي- عن الوحشية الإمبريالية الأميركية ضد الفلسطينيين، ليندا توماس-غرينفيلد، التي تمثل حالياً الولايات المتحدة في الأمم المتحدة. وعلى الرغم من كونها سليلة أجداد عانوا من أسوأ الممارسات الاستعمارية وحشية على الإطلاق، الاسترقاق، فإنها تواصل استخدام حق النقض ضد القرارات التي تهدف إلى تخفيف معاناة الفلسطينيين، لتعكس، في عيونهم على الأقل، تناقضاً صارخاً بين جذورها الكولنيالية وأدوارها الما بعد كولنيالية.

قد يبدو اختيار هؤلاء المسؤولين محاولة صادقة لتعزيز التنوع. لكن ثمة سبباً للشك في أنه استراتيجية مدروسة لإخفاء الطابع الإمبريالي للسياسات الأميركية. بتعيين أشخاص من خلفيات مضطهدة تاريخياً، تسعى الولايات المتحدة إلى صرف الانتباه عن جوهر سياساتها، وبيع وهمٍ بأن هذه السياسات ليست قائمة على التمييز أو شهوة الهيمنة.

لكن هذا التلاعب الرمزي لا يخفي وحشية الأفعال. سواء كان الأمر يتعلق بإفشال قرارات الأمم المتحدة لحماية الفلسطينيين، أو تبرير الحروب التي تدمر شعوباً بأكملها، فإن أدوار هؤلاء المسؤولين لا بد أن تبرز تناقضاً أخلاقياً عميقاً. بدلاً من أن يكون هؤلاء الناس أصواتاً تتحدى الأنظمة القمعية التي عانى أسلافهم منها، تجندوا كأدوات لخدمة الآلة نفسها التي تكرّس الظلم. والنتيجة خيانة مؤلمة للنضالات التي خاضتها مجتمعاتهم، تاريخياً، ضد الاستعمار والتمييز.

سوف يذكر التاريخ هؤلاء المسؤولين -وسنذكرهم نحن بشكل خاص- لا كرواد كسروا الحواجز، وإنما كأدوات عززت هذه الحواجز بطرق تخون ما ورثوه، وتشوه ما يورثوه. وبينما نشاهدهم، ونتعجب ونأسف، ينبغي ألا نركز انتباهنا على رسل الشيطان هؤلاء، وإنما على الأنظمة التي تُمكّن هذه التجليات البشرية للمغالطات المنطقية من الاستمرار ككيانات مشوهة تنافي ما ينبغي أن تكون عليه طبيعة الأشياء.

مقالات ذات صلة