طبّاخو السُّم في موسكو

محمود الريماوي

حرير- لم يدم تمرّد يفغيني بريغوجين، طبّاخ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، 24 ساعة سرعان ما مضت وانقضت، غير أن بواكيره غير المعلنة تعود إلى بضعة أشهر، وجدت تتويجا لها في العودة بقواته، من الأراضي الأوكرانية، بغير استئذان، إلى الأراضي الروسية والزحف من مدينة روستوف إلى موسكو من دون أن يعترضها معترض. قاد الرجل منذ العام 2014 فرقة فاغنر التي أقيمت على غرار “بلاك ووتر” الأميركية، وباستلهام هذه الأخيرة، وذلك جرياً على طريقة روسية في استلهام ما هو سيئ في النظام الأميركي، وبمباركة من الرئيس بوتين، وبغير أن تكون للرجل خبرة عسكرية. وكانت موسكو تزهو بما تصنعه مجموعته التي تضم مرتزقة في الأساس، في بلدانٍ مثل سورية وليبيا والسودان ومالي وأفريقيا الوسطى، من خوض الحرب بلا قواعد، وتحقيق أهداف موسكو في مناصرة المستبدّين ونهب ما يمكن نهبه من ثروات الآخرين، وبغير أن تتحمل تبعات ارتكاباته. وحين طالت معركة الاستيلاء على باخموت الأوكرانية، وخسرت القوات الروسية أعداداً مهولة من جنودها، تفتّق ذهن بريغوجين عن فكرة زجّ المساجين في المعركة مع إغرائهم بما يشبه لعبة قمار خطيرة: من يبقى حياً بعد انتهاء المعركة ينال حرّيته، ومن يقضي فإنه يذهب شهيداً، وبالطبع، من دون أن يكون لهم رأي في الصفقة التي أبرمت من جانب واحد. غني عن القول إن هذه الفكرة تخالف المبادئ القانونية، فالسجين بحكم القانون يقضي فترة عقوبة في محبسه، وينال بعدئذ حريته، ولا يمكن توقيع عقوبة أخرى عليه.

ولا مفر من الاستطراد هنا، فقد أصدر الكرملين، قبل أيام، قرارا يتيح ما سُمّي تجنيد المساجين، وهو قرارٌ يستكمل ما بدأه الطبّاخ من زجّ السجناء والسجينات قسرياً في معركة لم يقرّروا بملء إرادتهم خوضها. وتلا ذلك قرار آخر من أعلى المستويات في موسكو، تم فيه رفع سن التجنيد إلى 70 عاما، بما يؤهل بعض المقيمين في دور المسنّين للانضمام إلى التجنيد. ولما قيل إن معركة باخموت انتهت بالنصر من غير أن تظهر فيديوهات عن حال المدينة وتموضع القوات الغازية فيها، فقد عنى النصر تهديم المدينة على طريقة تهديم غروزني الشيشانية في مطالع هذا القرن، وتشريد غالبية سكانها وتعدادهم كان 70 ألف نسمة. وقد شعر حينها طبّاخ بوتين بأن طبخته نضجت، وأنه قد حقّق نصرا عسكريا مؤزّرا لم يتأت لوزير الدفاع، سيرغي شويغو، ولرئيس الأركان، فاليري غيراسيموف. وقد تعرّض المسؤولان الأرفع رتبة في المؤسّسة العسكرية إلى وابل من الشتائم المقذعة من بريغوجين، وأطلق بحق كل منهما، وعلى مدى أسابيع، اتهامات تبدأ من الخيانة، وحتى قبل أن يبلغ الرجل مشارف انتصاره المهزوز هذا. وقد ابتلعت مؤسّسة الحكم هذا الخروج السافر عن القوانين التي تنظم احترام التسلسل الهرمي للمراتب العسكرية، حتى أن الرجل لم يوفر سيّده بوتين حين أطلق عليه ذات مرة وصف “الجد السعيد”، قاصداً بذلك التقليل من مدى إدراك سيد الكرملين ما يحدث من حوله وتصويره أنه هانئ بغفلته.

على هذا النحو، بدأ التمرّد قبل أسابيع من دون أن يوضَع حدٌّ له. وفي تفسير ذلك أن القيادة كانت بحاجةٍ إلى المتمرّد، بما تمثله قواته من كتلة بشرية قابلة للتضحية بها، وتشكّل درعاً تحمي القوات النظامية. كما مثلّت تهجّمات الرجل فرصة للضغط على القيادة العسكرية العليا، كي تحسّن أداءها، مع إرجاء محاسبة الرجل على تجاوزاته إلى ما بعد انتهاء “العملية العسكرية الخاصة”، ولا شك أنها عملية خاصة جدا، إذ تستغرق من الزمن سنوات. ولهذا قيل في دوائر موسكو إنه لم يتم وضع حد للرجل في الوقت المناسب. وفي المحصلة، بدا طبّاخ بوتين في مرآة نفسه قائداً عسكرياً مغواراً وبالفطرة، يبزّ القادة العسكريين خرّيجي الكليات العسكرية وأصحاب السجل العسكري الحافل في الحروب والنزاعات المسلحة. وإذ سبقت تمرّداته التمرّد الذي قاده محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد مجموعة التدخّل السريع في السودان، فإنه يسهل العثور على المشتركات في سلوك الرجلين، فكلٌّ منهما تمرّد على سيده وقائده، وقد تميز حميدتي في ذلك بأمرين: أنه تمرّد مرّتين، على سيده عمر البشير، ثم على رئيسه في مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان. وأنه لم يكتف بإعلان التمرّد، بل ارتقى به إلى محاولة انقلابٍ عسكريٍّ على العسكر… لكن مع حفظ الفوارق، فإن تمرّد متزّعم فرقة فاغنر اتّجه إلى دولة حديدية ذات جيش عرمرم، وليس إلى دولة ضعيفة كما الحال في السودان. غير أن المشترك الكبير بين الحالتين أن إنشاء المليشيات قد تم من الدولة، إما لعدم الثقة الكافية بالقوات المسلحة، كما هو حال البشير في السودان الذي سمح بإنشاء قوات التدخل السريع، كي تتدخّل على جناح السرعة، إذا ما تعرّض مركزه للخطر. بينما في حال روسيا، أريد التذاكي بإنشاء مجموعة شبه عسكرية (شركة عسكرية خاصة)، كي تقوم بما لا يسع القوات النظامية فعله بغير مساءلة، كالاستيلاء على مناجم الذهب بالتعاون مع حميدتي في السودان، أو التنكيل بمن يعترض طريقهم كما في أفريقيا الوسطى ومالي، أو الوقوف إلى جانب طرف طامح للسلطة يسعه تقديم خدمات لموسكو، كما في حالة دعم الجنرال خليفة حفتر في ليبيا. وبهذا، سمح القائمون على الدولة في الحالتين بانشاء فرق مسلحة موازية للجيش، بما يمسّ من مكانة الدولة ومؤسّساتها ولمصلحةٍ يرتئيها النظام لنفسه، وقد سبق لسورية أن شهدت ذلك بصورة فاقعة بتشكيل فرق ومليشيات الشبّيحة التي حملت، في ما بعد، تسمية جيش الدفاع الوطني.

في ضوء ما تقدّم، كانت ظاهرة بريغوجين صنيعة للحكم في موسكو، وقد ارتدّ السحر فيها على الساحر، وقد استغرق تمرّد صاحبها أزيد من مائة يوم، وشكّل صدعاً في تماسك النخبة السياسية والعسكرية الحاكمة، وألقى بذور التمرّد في أجواء ساخنة محتقنة، ونستذكر هنا أن 52 مدينة روسية قد شهدت تظاهرات احتجاجية (قبل سحقها) ضد الحرب على أوكرانيا، وهي الحرب التي سخر طبّاخ بوتين من مبرّراتها الرسمية القائلة إن أوكرانيا، ومن ورائها حلف الناتو، كانت تعدّ لعدوان على روسيا، ناعتاً تلك المبرّرات بأنها “قصة جميلة”. وقد قيل في المأثور إن طبّاخ السُّم يتذوقه، وقد تبين أن في موسكو أكثر من طبّاخ، وكل منهم كان يطبخ لنفسه لا لغيره.

مقالات ذات صلة