وداعاً حماس… أهلاً بالناس

حلمي الأسمر

حرير- الحرب التي تعرّضت لها حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) تركتها “تنظيماً” مُثخناً بالجراح، فقد اغتالوا كل (أو معظم) قادة الصف الأول في الميدان، وفتكوا بمئات أو آلاف من كوادرها العسكريين والمدنيين، وتعرّضت حاضنتها الشعبية لحرب إبادةٍ غير مسبوقة، شيباً وشبّاناً نساء وأطفالاً وحتى أجنّة، وقطعت عنهم أو كادت كل سبل الحياة. كان عقاباً متوّحشاً يتجاوز أحكام الإعدام المعروفة، جزاء ما اقترفته في 7 أكتوبر (2023). استعمل العدو الصهيوني، الذي تسبّبت “حماس” بـ”عاهة مستديمة” له، كل أنواع القتل والتدمير والتنكيل، ضد “كيان” إنساني وعمراني كامل، مستهدفاً محوه من الوجود وشطب ذكرياته ومنجزاته تعليماً وزراعةً وعلوماً وتاريخاً وكل ما يدلّ على وجود حياةٍ في بقعةٍ لا تزيد مساحتها عن مساحة أي عاصمة كبرى، أو حتى أيٍّ من المزارع الحديثة أو جامعة (مساحة الجامعة الهاشمية في شرق الأردن تزيد مساحتها عن مساحة غزّة!). في ظاهر الأمر، نجح العدو في إيقاع “حماس” ليس في “شرّ” أعمالها، بل في أكثر الأعمال إضاءةً وتقديساً في التاريخ العربي المعاصر، إن لم يكن في تاريخ الأرض المعاصر كلها، فقد داست بقدمها على رأس “أقدس” كيان أقيم في القرن الأخير، كيان محاط بأحزمة أمان لم تتوفر لكيان آخر، كيان مدلّل مسموح له أن يسرق وينهب ويقتل ويغزو ويحتقر كل القيم والمبادئ البشرية، وكل العهود والمواثيق والمعاهدات التي تواضع عليها العالم، من دون أن تُوجّه له تهمة المروق، كيان مسموح له أن يفعل كل ما يخطُر ببال إبليس وأعوانه من شياطين الجن والإنس، من دون أن يحسب حساب أي مساءلة، ومن دون أي يفكّر أحد في هذا العالم بإيذاء مشاعر أي مجرم يحمل جنسيّته، أو حتى يرميه بوردة، لتأتي “حماس” و”تمرّغ” وجهه، وتعلّم عليه بجرحٍ لا يندمل، بل حتى لو شفي وهو ليس بشافٍ منه، فهو يترك نُدبةً لا تجدي في إزالته أي عمليات ترميم أو تجميل. ولهذا كان “العقاب” بحجم “الجريمة!”، عقاب اتفقت على بشاعته كل الشعوب تقريباً، عرباً وعجما، شرقاً وغرباً، سرّاً وعلانيةً، عقاب ستتحدّث به الأجيال، وسيكتبه المؤرّخون كأكثر عقاب شهده العالم المعاصر، فكل ما بدا ونشر وصوّر من جوانبه جزء بسيط من التنكيل والبشاعة والهمجية التي وقعت.

تعرّضت “حماس”، ومعها مقاتلوها وحاضنتها الشعبية ومؤيدوها في العالم لأبشع ما يمكن أن يتخيّله بشر من تنكيلٍ وعقاب، في غزّة وعموم فلسطين، وفي سجون العدو الصهيوني ومعتقلاته، أو حتى سجون العرب والعجم، عقاب تحوّل إلى قوانين صارمة، تدين كل من أيّد ما فعلته أو أعجب به، أو دعا الله أن ينصرها حتى في أقدس بقعة إسلامية على وجه الأرض، مكّة المكرمة، فهي “كيان إرهابي” في معظم الدول.

كل من يحمل جينات “حماس” مهدور الدم ومُلاحق، فهي مرضٌ وبائي أو جائحة أو فيروس، يُخشى من انتشاره وانتقال آليات عمله إلى شعوب الأرض المهمّشة والمضطهدة، ولهذا يتوجّب صناعة “مطعوم” ساحق ماحق لإنتاج أجسام مضادّة تقاومه وتحاصره وتقضي عليه، ذلك أن انتشاره يقوّض إمبراطوريات الشر، ويفتك بجبابرة العالم، وينقض كل سرديات الكذب والدجل والإفك عن العدالة والإنصاف والحرية.

تقديرات كثيرين أن “حماس” ماتت وأبيدت، وشُرّد مقاتلوها، ونال العدو منها، وتركها “تنظيماً” مثخناً بجراحٍ لا يُرتجى منها شفاء، واليوم هي، كما يقول قائلهم، تلفظ أنفاسها الأخيرة، ولن ينفعها لا جبهات إسناد ولا محور مقاومة، ولا ملايين المقالات والدراسات التي تمجدها وتتغزّل ببطولات قسّاميها، وإبداعاتهم القتالية والتصنيع العسكري المحلي، وإثخانهم اليومي في قوات العدو، ولا اجتراحهم لأساليب مقاومة لا تخطر ببال أحد، ولا عبقريات وخطط حربية غير مسبوقة، ولا صمود يقترب من حدود الإعجاز والأساطير والخرافات، حماس بكل هذه المعاني في مرحلة الفناء والتلاشي وذهاب الريح، ولن تقوم لها قائمة، ولن تعود إلى سيرتها الأولى، فقد طويت حقبتها، وانتهت أو كادت الطريق التي اختطتها، وأصبحت أمثولة في عقاب كل من ينتهج نهجها، أو يفكر في التأسي بها، فقد جعلوها عبرة لمن يعتبر، وجعلوا من عقابها أو أملوا أن يحولوا هذا العقاب إلى رادعٍ ساحقٍ لقتل كل من يفكر في اقتراف “ذنبها”.. هكذا تبدو الصورة الآن، أو قل الصورة التي يحاولون ترويجها وبيعها ونشرها، ولكن ما هي الحقيقة التي لا يريدون طمسها، أو قل الاعتراف بها؟

أنت حينما تدفن بذرة في الأرض تموت، ولكنها تنبعث على نحو مختلف: نباتاً يبدأ ضعيفاً ثم ما يلبث أن يستوي على سوقه، وينتج بدلاً من البذرة بذوراً كثيرة، هو ليس موتاً بالمعنى الفيزيائي، بل هو بعثٌ جديد، فلم يقتلوه ولم يهزموه ولم يسحقوه، ولكن شبّه لهم!

ماتت “حماس”، بشكلها المألوف المعرف، وانتهت، ولكنه موتٌ من نوع آخر. كانت تنظيما محدوداً أو كياناً سياسياً وعسكرياً معروف الأعضاء، ولكنها اليوم تحوّلت إلى ما هو أخطر وأكبر وأشرس من تنظيم، “حماس” اليوم هي الناس، اختفت “حماس” أو كادت ككيان لتتحوّل إلى كياناتٍ أو جيناتٍ زرعت في أجساد (وعقول) الملايين من الناس عرباً وعجماً، “حماس” وغزّة ضحّت بنفسها ليس لتحرير فلسطين، بل لتحرير العالم كله. أكثر من ذلك، تحوّلت “حماس” إلى حماساتٍ متعدّدةٍ مؤبّدة ستظلّ تطاردهم في صحوهم ومنامهم حتى تنتصر، وإن كانت انتصرت جزئياً الآن، فالنصر الكبير قادمٌ قادمٌ بعون الله.

مقالات ذات صلة