تحول تاريخي: الجنائية الدولية تلاحق نتنياهو

محمد عايش

حرير- مذكرة الاعتقال التي صدرت عن المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير حربه السابق يوآف غالانت، تشكلُ تحولاً تاريخياً بالغ الأهمية، وهي لحظة فاصلة في تاريخ النضال الفلسطيني ضد الاحتلال، وذلك على الرغم من كونها جاءت متأخرة جداً، وبعد أن قتل الاحتلال أكثر من أربعين ألفاً من المدنيين الأبرياء، وتسبب بأسوأ كارثة إنسانية في العصر الحديث.

تحرك «الجنائية الدولية» يُضيق الخناق أكثر من أي وقت مضى على نتنياهو وفريق حربه، وحتى على حكومته بأكملها، وعلى المسؤولين السياسيين الاسرائيليين، كما أنه يُشكل أكبر ورقة ضغط مورست حتى الآن على إسرائيل منذ 14 شهراً، إذ بات نتنياهو من الناحية القانونية ملاحقاً ومطلوباً للاعتقال في 124 دولة، وهي الدول الموقعة على «ميثاق روما»، الذي أسس لعمل «الجنائية الدولية»، وهذه الدول تشمل دول الاتحاد الأوروبي كافة، إضافة إلى سويسرا وبريطانيا وأستراليا ونيوزيلندا وكندا، وقائمة أخرى طويلة من الدول المهمة التي تقيم علاقات رسمية مع إسرائيل. كما أن مذكرة الاعتقال الصادرة بحق نتنياهو وغالانت تحمل جملة من الدلالات والانعكاسات المتوقعة، وهذه أبرزها:

أولاً: هذه المذكرة تنسف السردية الإسرائيلية التي يتم ترويجها في العالم منذ 14 شهراً، والتي تقوم على الادعاء بأن إسرائيل تمارس حقها في الدفاع عن النفس، وأن ما تقوم به في غزة والأراضي الفلسطينية يرمي إلى تحقيق الأمن للإسرائيليين، فإذا بهذه المذكرة تشكل قراراً واضحاً من أعلى هيئة قضائية مستقلة في العالم، بأن ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية هو جريمة حرب، وعملية «إبادة جماعية»، وأن القائمين على هذه الجريمة يتوجب إيقافهم ومحاسبتهم على فعلتهم.

ثانيا: صدور مذكرة اعتقال دولية بحق نتنياهو يعني انتهاء حياته السياسية من الناحية العملية، إذ من غير المعقول أن يستمر طويلاً في منصبه، ولا يوجد ما يدفع إلى الاعتقاد بأنه يستطيع التعايش مع وجود هذه المذكرة، كما لن يستطيع القيام بمهامه، وعلى الرغم من أننا نعلم بأنه على الأغلب لن تقوم أية دولة باعتقاله، لكن هذه الدول في المقابل لن تفتح له الأبواب ولن ترحب به.

ثالثاً: هذه المذكرة قد تكون بداية لمحاسبة ومحاكمة عدد من المسؤولين الإسرائيليين، بمن فيهم مسؤولون عسكريون وضباط وقيادات في الجيش الإسرائيلي. إذ أن المنطق أن نتنياهو وغالانت وإن كانا يتحملان المسؤولية السياسية، فإن ثمة مسؤولين عسكريين قاموا بالتنفيذ، وارتكبوا الكثير من الانتهاكات، ما يعني أن مذكرات لاحقة قد تصدر بحقهم، وأغلبُ الظن أنهم اليوم مرعوبون من هذا السيناريو.

رابعاً: من المؤكد أن صدور هذه المذكرة عن «الجنائية الدولية» سوف يُشجع على ملاحقة الجنود الإسرائيليين في بعض الدول الغربية، سواء الدول التي يحملون جنسياتها ويترددون عليها، أو الدول التي تتيح قوانينها ملاحقة مجرمي الحرب، ولو ارتكبوا جرائمهم في الخارج، مثل بريطانيا والنرويج، وهذا معناه أننا أمام موجة واسعة من الملاحقات القضائية والقانونية ضد جنود وضباط الجيش الإسرائيلي على مستوى العالم، وليس فقط أمام «الجنائية الدولية». ومن المهم الإشارة إلى أن ثمة منظمات ومحامين مختصين بدؤوا العمل بالفعل في هذه الملاحقات على مستوى بعض الدول الأوروبية.

خامساً: مذكرة قضائية دولية ضد نتنياهو سوف تشكل إحراجاً بالغاً لبعض الأنظمة العربية التي اندفعت نحو إقامة علاقات تطبيع مع إسرائيل، كما أنها إحراج لمن ينوون التوقيع أيضاً، أو يطمحون للارتماء في الحضن الصهيوني عند وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، إذ أن هذه الدول ستقيم علاقات مع رجل قال العديد من الدول الكبرى بأنها ستقوم باعتقاله إذا ما وطأت قدماه أراضيها.

سادساً: هذه المذكرة تنفي محاولات الدفاع عن الحرب الإسرائيلية، التي قام بها بعض المسؤولين الغربيين، بمن فيهم رئيس الوزراء البريطاني الذي نفى أن يكون ما يجري في غزة «حرب إبادة»، إذ أن أمر المحكمة الدولية باعتقال نتنياهو يعني بالضرورة الاشتباه بأن ما يقوم به هو جريمة «إبادة جماعية»، وهي واحدة من الجرائم الخطيرة ضد الإنسانية.

نعلم بأن نتنياهو لن يتم اعتقاله ولا توقيفه، وأنه لا يُمكن أن يسافر إلا بعد التنسيق واتخاذ الإجراءات الدبلوماسية اللازمة، لكن هذه المذكرة تظل وثيقة إدانة رمزية بالغة الأهمية، كما أنها وثيقة تاريخية ستظل إلى الأبد شاهداً على حرب تعرض فيها الفلسطينيون واللبنانيون إلى محنة غير مسبوقة، وتعرض فيها قطاع غزة إلى المسح بالكامل، وهي وثيقة تنسف الرواية الاسرائيلية برمتها في العالم.

مقالات ذات صلة