اللبنانيون ووعود ترامب بإنهاء الحرب
رندة حيدر
حرير- منذ إعلان فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، تسود موجةٌ من التفاؤل في وسط لبنانيين كثيرين وعدهم (تربطه علاقة مصاهرة بلبنان) خلال حملته الانتخابية بإنهاء الحرب وإعادة السلام والأمن والاستقرار إلى هذا البلد. كما ساهم في إشاعة التفاؤل مستشار الرئيس الأميركي في الشرق الأوسط، مسعد بولس، اللبناني الأصل، ووالد صهر ترامب، الذي لعب دوراً جوهرياً في جذب أصوات العرب عموماً، واللبنانيين من المسلمين في ولاية ميشيغن، واقنعهم بالتصويت لصالح ترامب. وكان بولس قد أوضح، في أكثر من اطلالة ومناسبة، أن الرئيس ترامب سيستخدم نفوذه لدى رئيس الحكومة الإسرائيلية لإقناعه بالموافقة على وقف إطلاق نار في لبنان، يجري خلاله التفاوض على اتفاق دائم ينهي الصراع بين لبنان وإسرائيل، ويحلّ مسألة سلاح حزب الله.
في غضون ذلك، تحدثت تقارير إسرائيلية عن أن إسرائيل تبحث إمكانية وقف إطلاق النار، وأن ذلك يجري في ضوء أمرَين أساسيَين: إعلان الجيش الإسرائيلي أنه استكمل تحقيق الأهداف التي وُضِعَت لعملية التوغلّ البرّي المحدود، التي ينفّذها منذ أكثر من شهر وأسبوع، وأنه ينتظر حالياً ما ستقرّره الحكومة في هذا الشأن. ورغبة رئيس الحكومة الإسرائيلية أن يُظهِر انفتاحه وتجاوبه مع دعوة ترامب إلى وقف الحرب، سواء في لبنان أو في غزّة، قبل دخوله البيت الأبيض.
والسؤال المطروح بقوة مع الحديث عن استمرار عاموس هوكشتاين في وساطته بين إسرائيل ولبنان بطلب من الرئيس ترامب، واحتمال قدومه إلى المنطقة، هل فعلاً هناك ما يبرّر تفاؤل اللبنانيين بأن ترامب يمكن أن يحقّق وقف النار؟ والسؤال الثاني، الذي يفرض نفسه: ما هو الإطار الجديد للتفاوض الذي سيطرحه هوكشتاين على الطرفَين، وما هي فرص نجاحه؟
وفي الواقع، يبدو من الصعب تقديم إجابات واضحة وقريبة من اليقين أولاً في ضوء تطوّر المواجهات العسكرية بين إسرائيل وحزب الله، ومن جهة ثانية، في ضوء الخداع الذي مارسته الحكومة الإسرائيلية طول العام الماضي بشأن مفاوضات وقف إطلاق النار مع حركة حماس، التي لم تنجح سوى مرّة في العام الماضي (2023)، وفي مثل هذا الشهر منه، ومن بعدها تحوّلت مفاوضاتٍ عقيمةً تدور في دائرة مفرغة، بينما يستكمل الجيش الإسرائيلي “تطهير” شمال غزّة ممّن بقوا هناك، بالقصف وبالتجويع وبالحصار.
ما نشهده اليوم في لبنان صيغة لا تعلم كاتبة هذه السطور إذا كانت موجودةً في القاموس العسكري لحرب استنزاف غير متناظرة. وليس عدم التناظر ناجماً عن التفاوت في القدرات العسكرية للطرفَين، فكلّنا يعرف أن حزب الله يخوض حربه في ظلّ تفوّق جوي عسكري واستخباراتي إسرائيلي مرعب، لكنّه تمكّن من تكبيد الجيش الإسرائيلي خسائرَ بشريةً وغيرَ بشريةٍ قد يتكتمّ الجيش على إعلانها، وكما تسبّب بخسائر اقتصادية للمنطقة الشمالية في إسرائيل، وعطّل، إلى حدّ بعيد، الحياة العادية للإسرائيليين في منطقة واسعة من المناطق التي يشملها قصفه، فهولاء يستيقظون منذ ساعات الصباحات على صفّارات، قبل خروجهم إلى أعمالهم، تجبرهم على الهرع إلى الأماكن المحصّنة، تودّعهم في نهاية اليوم صلية صاروخية. واللافت، حرص الحزب على عدم إيقاع خسائر كثيرة في صفوف المدنيين هناك.
في المقابل، تحصد حرب الاستنزاف الإسرائيلية أثماناً مؤلمةً وباهظةً بشكل لا يمكن مقارنته بما تشهده إسرائيل. لبنان كلّه يعيش تحت وطأة آلة الحرب الإسرائيلية الجهنّمية التي تمارس تدميرها المنهجي ضمن ثلاث حلقات. حلقة النار الأولى هي البلدات اللبنانية المحاذية للسياج الحدودي. لا يمكن حالياً تقدير نتائج عملية “التنظيف” التي تقوم بها القوات الإسرائيلية منذ أكثر من شهر، لكنّ الأكيد أنها على الأرجح أوجدت واقعاً جديداً، وحوّلتها مناطق عير قابلة للحياة، كما فعلت إسرائيل في الحزام الضيق من غزّة المتاخم لبلدات “غلاف غزّة”. حلقة النار الثانية هي التدمير المنهجي والهمجي للبلدات الجنوبية الواقعة ما بعد نهر الليطاني، وتحويل بعض أحيائها صورةً عن أحياء مخيّم جباليا وبيت لاهيا، وكذلك مناطق واسعة من البقاع، بينها مناطق تعاني من الفقر والحرمان، ما فاقم مأساة الناس هناك. وبالطبع، هناك القصف الليلي لأحياء الضاحية الجنوبية، الذي يتوسّع ويصبح أكثر تدميراً. حلقة النار الثالثة هي الاستهدافات من دون إنذارات أو تحذيرات، تطاول المناطق اللبنانية كلّها، ويسقط يومياً جرّاءها ضحايا، أغلبيتهم من النساء والأطفال الذين هربوا من الموت في بلدتهم، فإذا بآلة الموت الإسرائيلية تصل إليهم في الأماكن التي اعتقدوا أنها آمنةً، تماماً كما يحدث للغزّيين الذين تجبرهم إسرائيل على النزوح إلى أماكن “آمنةٍ”، ثمّ تستهدفهم هناك.
يعترف الأمين العام الجديد لحزب الله، نعيم قاسم، بضخامة التضحيات، ويشدّ على أيدي النازحين من أبناء بيئة حزب الله، ويعدهم بالنصر، ومنذ فترة لم يعد الحزب يعلن أسماء شهدائه، وبدأ المدنيون في لبنان يتحمّلون الثمن الباهظ للمواجهة العسكرية غير المتناظرة مع إسرائيل، كما الحال في غزّة. لكن “حماس” وجّهت في 7 أكتوبر (2023) صفعةً لا تنسى لإسرائيل، بينما حزب الله يدفع ثمن سوء الحسابات، واعتقاده أن حرب الإسناد ستظلّ ضمن حدود اشتباك معيّنة، ولن تتدهور حرب إبادة أخرى ضدّه، وضدّ الشعب اللبناني بأكمله.
في هذا المشهد من الخراب والموت، يأتي ترامب بوعوده التي يتعلّق بها لبنانيّون. ترامب، الذي يُحبّ عقد صفقات، يريد التوصّل إلى صفقة مع نتنياهو، كما يقول بولس مستشار ترامب، لوقف الحربين في لبنان وغزّة، ضمن إطارأوسع بكثير، يتعدّى لبنإن إلى دول المنطقة، بدءاً من اتّفاق تطبيع مع السعودية لقاء تسوية فلسطينية ما، وانتهاءً بالتفاوض مع إيران على اتفاق نووي جديد.
في هذه الأثناء، سيبقى المدنيون في جنوب لبنان وبقاعه وضاحيته، وسكّان غزّة في شمال القطاع ووسطه وجنوبه، ضحيةَ آلة الموت والدمار الإسرائيلي. وسيظلّ اللبنانيون يتمسّكون “بحبال الهوا” للوساطة الأميركية الموعودة، والخوف من اصطدام الوساطات الأميركية الجديدة بالتعنّت الإسرائيلي، ومن تبدّد الآمال التي عقدها اللبنانيون على ترامب.