هل يفهم الجميع ما تعنيه “الدولة العميقة” حقًا؟
عبدالله مبيضين - اوهايو " الولايات المتحدة الأمريكية "
غالبًا ما يستخدم مصطلح “الدولة العميقة” في المناقشات حول الانتخابات الأمريكية. تتنوع تفسيرات المصطلح، لكنها تشير عمومًا إلى شبكات راسخة تعمل خارج سيطرة المسؤولين المنتخبين، من البيروقراطيين والموظفين داخل المؤسسات الحكومية، حيث يحتفظون بنفوذ كبير ويواصلون العمل بشكل مستقل عن السياسيات السطحية أو الإدارات المنتخبة، وهي شبكة قد تكون قادرة على التأثير أو حتى توجيه السياسات بطرق تتجاوز الرقابة الديمقراطية المباشرة.
تستكشف إحدى الدراسات الرئيسية، الأمن القومي والحكومة المزدوجة (2015) لمايكل جيه جلينون، مفهومًا مشابهًا دون استخدام المصطلح بشكل مباشر. يزعم جلينون أن الولايات المتحدة تعمل كـ “حكومة مزدوجة” بفرعين رئيسيين:
1. المؤسسات العامة: الهيئات الحكومية التقليدية مثل الكونجرس والرئاسة والقضاء.
2. شبكة ترومان: سميت على اسم وكالات الأمن القومي التي أنشئت خلال رئاسة ترومان، وتشمل مسؤولين عسكريين واستخباراتيين وأمنيين مستقلين يمارسون نفوذًا كبيرًا.
في هذا الإطار، تتكون “الدولة العميقة” من:
1. وكالات الأمن القومي التي تعمل إلى حد كبير في سرية واستقلالية
2. المسؤولون طويلو الأمد الذين يضمنون الاستمرارية والاستقرار داخل العمليات الحكومية
3. وكالات الاستخبارات وإنفاذ القانون مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي التي غالبًا ما تتجاوز القنوات السياسية النموذجية
تحتفظ هذه الكيانات، بسلطة راسخة وخبرة متخصصة، وبتأثير كبير على السياسة الأمريكية، بصرف النظر عن الإدارة في السلطة.
من المهم التمييز بين مصطلحين. “الحكومة المزدوجة” التي تتناول بشكل خاص بنية الحكومة الأمريكية الداخلية وتأثير الأجهزة الأمنية. في حين يشير مفهوم “الدولة العميقة” إلى شبكة أوسع تشمل أيضًا قطاعات اقتصادية وجماعات ضغط.
جماعات الضغط “اللوبيات” تعد أيضاً جزءًا من كيانات الدولة العميقة. تمثل هذه الجماعات مصالح قطاعات مثل: الصناعات العسكرية والتكنولوجية، الصناعات الدوائية والصحية والبيئية، إضافة إلى شركات التأمين والشركات “عابرة القارات” وغيرها… وبفضل مواردها المالية الكبيرة وخبرتها العميقة في السياسة، يمكنها التأثير في العملية التشريعية وتنفيذ السياسات العامة، ما يجعلها لاعبًا أساسيًا في شبكة الدولة العميقةالواسعة.
من المهم التأكيد على أن هذه الجماعات تعمل في إطار قانوني ومعلن، وغالباً ما تكون مسجلة ومنظمة بموجب القوانين الفيدرالية، وهو ما يختلف عن الطبيعة السرية وغير المعلنة التي قد تميز عناصر أخرى في الدولة العميقة.
تأثير الدولة العميقة المفترض يمكن توضيحه من خلال أمثلة تاريخية:
• السياسة الخارجية والحرب في فيتنام: كان هناك تباين بين السياسة العلنية للإدارات الأمريكية والعمليات السرية التي كانت تديرها الوكالات مثل وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) التي لعبت دوراً كبيراً في تصعيد النزاع من خلال عمليات سرية دون موافقة صريحة أو واضحة من الكونغرس.
• أزمة إيران كونترا: في الثمانينات، شُنت عمليات سرية لتمويل المتمردين في نيكاراغوا عبر بيع الأسلحة إلى إيران بالمخالفة للسياسة العامة للولايات المتحدة وتحدياً للحظر الذي فرضه الكونغرس. كشفت هذه الفضيحة عن وجود قوى داخل الحكومة الأمريكية تعمل بشكل مستقل عن الإرادة السياسية العلنية.
• التجسس الداخلي وبرنامج الرقابة: بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، تم توسيع برامج الرقابة الداخلية للوكالة الوطنية للأمن (NSA) بشكل كبير. برامج مثل PRISM، التي كشفت عنها تسريبات إدوارد سنودن، جسدت كيف يمكن لوكالات الأمن القومي أن تؤثر على السياسات دون معرفة كاملة أو موافقة الجمهور أو حتى بعض أعضاء الكونغرس.
• التدخل في السياسة الخارجية: خلال الأزمة السورية، كانت هناك تقارير عن تناقضات بين سياسات الإدارة الأمريكية والعمليات الفعلية التي تقوم بها وكالات مثل CIA في تدريب وتسليح فصائل معارضة.
• إنفاذ القانون والمنافسة الاقتصادية: في العقود الأخيرة، كشفت عدة تحقيقات عن كيفية استخدام بعض الوكالات الفيدرالية للتأثير على المنافسة في القطاعات الاقتصادية بطرق تفيد مصالح معينة بدلاً من الحفاظ على مبدأ المنافسة الحرة.
هذه الأمثلة تبرز كيف يمكن لـ “الدولة العميقة”، من خلال الوكالات والمؤسسات البيروقراطية، أن تمارس تأثيراً قوياً وأحياناً مستقلاً عن الأطر السياسية المعلنة، مما يؤثر على سياسات الولايات المتحدة وقراراتها الحكومية.
في النهاية، تأثير “الدولة العميقة” يمكن أن يشكل تحديًا جديًا للديمقراطية والشفافية في الولايات المتحدة، وقد يؤثر بشكل كبير على الثقة في نظامها السياسي وفعاليته، خصوصا فيما يتعلق بالسياسات الخارجية.