هل لإسرائيل تاريخ صلاحية محدد؟

حسين مجدوبي

حرير- هل يمكن القول إن إسرائيل تحمل تاريخ صلاحية محدد، وقد تنتهي إذا لم تعترف بالدولة الفلسطينية خلال السنوات المقبلة؟ الجواب سيكون بالتأكيد وبنعم في قراءة خاصة – أكثر منها تأويلا- للتطورات التي يحملها المستقبل في المجال العسكري. ذلك أن تهميش حل الدولتين يعني استمرار الصراع، وكل المعطيات الميدانية المقبلة لا تصب في صالح الكيان.

منذ اندلاع حرب طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تعيش إسرائيل قلقا حقيقيا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والنفسي، لا يمكن القول، إن المواطن الإسرائيلي قبل طوفان الأقصى هو نفسه بعد هذا الحدث، الذي يعتبر منعطفا حقيقيا في الصراع في منطقة الواجهة المتوسطية للشرق الأوسط، من سيناء إلى سوريا مرورا عبر لبنان والكيان وفلسطين.

عاش المواطن الإسرائيلي منذ تأسيس الكيان في مأمن في حدودٍ ما فتئت تتوسع، نظرا لقوة الجيش الإسرائيلي منذ الخمسينيات بفضل الدعم العسكري الغربي. وعملية التوسع هي شبيهة بعمليات الاستعمار الكبرى، ويستمر الحلم اليهودي على الأقل لدى شريحة كبيرة، وليس المتطرفين منهم فقط، وهو إقامة إسرائيل الكبرى تطبيقا لتعاليم الدين اليهودي. غير أن هذا الحلم لن يتحقق، بل أصبحت إسرائيل ككيان يحمل تاريخا محددَ الصلاحية، وهذا مبني على تطورات معطيات ميدانية وليس نبوءة العقد الثامن، التي تقول بزوال إسرائيل بعد مرور ثمانية عقود على أي كيان يؤسسونه، وتبقى إسرائيل هي الكيان الوحيد «الدولة» التي تعيش في العالم هاجس البقاء والاستمرار لأنها تدرك أنها «ميغا مستوطنة». ونعني بالمعطيات الميدانية تطور السلاح، الذي يمتلكه الآخر، واحتمال ظهور حركات مقاومة على شاكلة حزب الله في المنطقة، تعزز المقاومة الفلسطينية، وليس بالضرورة ذات توجه شيعي. في هذا الصدد، كان الجيش الإسرائيلي صاحب كلمة الفصل في الحروب التي خاضها ضد الجيوش العربية، وضد حركات المقاومة، حيث كان يصول ويجول في لبنان مثلا. إلا أنه بعد حرب يوليو/تموز 2006 تراجعت حدة الردع الإسرائيلي، وفقد الكثير من قوته في الحرب الحالية، إذ تتمركز خمس فرق من الجيش الإسرائيلي في شمال لبنان، ولم تستطع التقدم البري بعد أكثر من شهر من الحرب المفتوحة. في المقابل، أصبحت الصواريخ والطائرات المسيرة لحزب الله تزرع الرعب في إسرائيل، بضرب مؤسسات حساسة وحيوية، ولعل المنعطف التاريخي هو قرار الحزب نهاية الأسبوع الماضي بمطالبة 25 مستوطنة بضرورة إخلائها والانتقال الى مناطق أخرى. هذا القرار هو رد جريء على سياسة إسرائيل، ولم تكن تل أبيب تنتظر إجراء قويا مثل هذا لأنه ضربة نفسية – أمنية خطيرة للمواطن الإسرائيلي.

وإذا أردنا تحديد تاريخ صلاحية الكيان كقوة إقليمية، وما قد يتلوها من بدء مسلسل الانهيار، سيكون من دون شك عندما تتوفر المقاومة اللبنانية، من دون استبعاد الفلسطينية على أنظمة دفاع جوي قادرة على لجم سلاح الطيران الإسرائيلي والحد من خطورته. ونجحت المقاومة اللبنانية في لجم القوات البرية التي لا تستطيع التقدم رغم عددها الكبير وسلاحها النوعي، وقد يتكرر السيناريو مع القوات الجوية في حالة التوفر على أنظمة دفاع جوي متطورة، مما سيضعف الجيش الإسرائيلي بشكل ملموس. ونجحت المقاومة اللبنانية ونسبيا الفلسطينية في تجاوز القبة الحديدية، نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي، لأن صواريخ الهجوم تتطور مرتين أكثر من صواريخ الدفاع وثلاث مرات من المقاتلات، وكيف أن الملاجئ تحت أرضية أصبحت جزء من المعيش اليومي للإسرائيليين. هذا سيعني أن المعادلة بمقتل عشرة لبنانيين مقابل إسرائيلي ومقتل ثلاثين أو أربعين فلسطينيا مقابل كل إسرائيلي ستتقلص بدرجة كبيرة، وهذا لن يتحمله ليس فقط الرأي العام الإسرائيلي، بل بنية الكيان.

وارتباطا بهذا، هل كان يمكن لإسرائيل الصمود سنة كاملة أمام حركات المقاومة، لولا الدعم الغربي وأساسا الأمريكي؟ الجواب سيكون لا، الاستنزاف كان سيجبر الجيش الإسرائيلي على وقف الحرب في شهرها الرابع أو الخامس. لقد فتحت الولايات المتحدة لإسرائيل مخزون السلاح وتساهم في حماية أجوائها بأنظمة مثل باتريوت وثاد. وما يجب أن يطرحه المواطن الإسرائيلي وهذا يتناوله أحيانا بنوع من الاحتشام الإعلام الإسرائيلي: إلى متى سيستمر الدعم الأمريكي؟ وهل السلاح الأمريكي سيكون قادرا على حماية إسرائيل في ظل تطور صواريخ ومسيرات الطرف الآخر؟ من دون شك، الجواب هو أن الدعم الأمريكي سيفقد تأثيره مع تقدم سلاح الآخر. من جهة أخرى، مشاهد الدمار ومشاهد حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، خاصة قصف المستشفيات وقتل الأطفال والنساء هي صور ستبقى حية في مخيلة الشعوب العربية والإسلامية، كما هي حية مشاهد المحرقة في مخيلة اليهود. وهذا سيؤدي إلى مزيد من رفض التعامل مع إسرائيل كدولة وكشعب، لأن ما تعتقده إسرائيل بخنوع الشعوب العربية، ما هو إلا مرحلة مؤقتة ناتجة عن وجود أنظمة ديكتاتورية تبحث عن البقاء في السلطة والاستمرار ولو بالتحالف مع إسرائيل عبر التطبيع، لأن الشعوب ستثأر لكرامتها، وهي تعتبر فلسطين قضية مقدسة. لقد أصبحت إسرائيل منبوذة في العالم، وأصبح جزء عريض من الرأي العام العالمي يقارنها بالنازية، وهذا يعني أنها فقدت ذلك التعاطف الكبير بعد الحرب العالمية الثانية بسبب ما تعرض له اليهود.

في معطى آخر مضاد للحلم الإسرائيلي، كانت إسرائيل وحتى نهاية التسعينيات تشهد قدوم اليهود عبر مراحل لتعزيز نسبة الساكنة اليهودية، وآخر مرحلة في هذا المسار بشكل مكثف كان قدوم اليهود الروس، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. والآن تعيش إسرائيل حركة معاكسة، حيث الهجرة نحو الخارج تفوق بكثير الهجرة نحو إسرائيل التي أصبحت منعدمة. وبدأ المواطن الإسرائيلي يشعر بغياب الأمن والأمان بعد طوفان الأقصى، وهو واع بالمخاطر المستقبلية.

تعتقد إسرائيل أنها تكرر نموذج الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا، أي الاستيطان الذي يمحي نهائيا الشعوب الأصلية والحلول محلها بصيغة من الصيغ، لكن في حالة فلسطين يبقى مستبعدا، أولا لأن فلسطين محاطة بشعوب تدافع عن القضية وهي حية في وجدانهم، مثل المعتقد الديني في انتظار قدوم أنظمة ذات شهامة وليس خانعة، وثانيا، الشعوب الحية تطرد المستعمر لو دام الاستعمار قرونا مثل حالة جنوب افريقيا، أو عقودا طويلة كما هو الشأن في دول افريقية وآسيوية. وكان المؤرخ الإسرائيلي الراحل رون بونداك أحد مهندسي اتفاقيات أوسلو، قد تكهن في مقال له شهير في يومية «هآرتس» بمستقبل مرعب لإسرائيل ابتداء من سنة 2025 لأسباب اجتماعية واقتصادية وثقافية. والآن تضاف أسباب عسكرية لم تخطر على البال وقتها، لأن العلاقات الدولية، خاصة مواجهة الاستعمار قائمة على نوعية السلاح وليس على الاتفاقيات. والتطور الحاصل في صناعة السلاح من طرف دول في الشرق الأوسط مثل إيران وتركيا، وربما غدا مصر سيؤثر على الخريطة الجيوسياسية في المنطقة، ومنها ما يحصل الآن من تراجع تأثير إسرائيل، ثم تآكل الردع الإسرائيلي، وربما غدا انهيار الكيان إذا لم يسارع بقبول إقامة الدولة الفلسطينية. فهل تحمل إسرائيل تاريخ صلاحية ينتهي في… إذا لم تعترف بالدولة الفلسطينية؟

مقالات ذات صلة