الكهربجي

يوسف غيشان

حرير- كانت العرب ، منذ جاهليّتها الأولى ، تحترم العدو .. لأنّها ،أي العرب ، كانت تحترم نفسها، ولم تكن العرب تعادي أو تحارب، إلاّ من يستحق المحاربة والمعاداة ، ويكون ندّاً في الشجاعة والكرم والقوة والنسب والحسب .. ومن يراجع قصائد عنترة بن شدّاد، ومن هم مثله من الشعراء الفرسان ، يدرك أنّ العرب كانت تبرز الخصائل الحميدة في الأعداء وتبين شجاعتهم .

عنترة بن شدّاد مجرّد مثال بسيط ، لا بل أنّ مجمل تراثنا العربي من شعر وحكايات و سير ، يعتمد النهج ذاته في منح العدو حقّه من التقدير ، وأعتقد أنّهم كانوا أحياناً يبالغون في مدح الأعداء ، من أجل تبيان أنهم ينتصرون على هؤلاء ، رغم قوتهم وبطولتهم ، سواء كان الأعداء عرباً مثلهم ، أم من جنسيات أخرى .

لا أعرف بالضبط متى تخلّت العرب عن هذه العادات ، هل حصل الأمر في العصر التركي السلجوقي ، أم في عصر الأيوبيّين ، ثمّ المماليك من بعدهم ، ثمّ الأتراك من آل عثمان ؟ فهذه الأمور بحاجة إلى بحّاثة في أنثروبولوجيا الشعوب ، لكنّي أعتقد أن بدايات التخلّي عن عادة تقدير العدو ارتبطت عاطفياً ومعنوياً ، بمدى احترامنا لأنفسنا.

نعم يا سادة يا كرام ، فمنذ أن تخلّى المعتصم عن بعض صلاحياته لأخواله الترك .. التي مهّدت ، في ما بعد ، إلى الانهيار التدريجي لسيطرة العنصر العربي على مقاليد الحكم ، من ذلك الوقت أصبنا بالإحباط والاكتئاب الجماعيّ ، ولجأنا إلى الحيل النفسية من نكوص وتبرير وإسقاط من أجل خلق الذرائق لأنفسنا ولوم الآخرين .. وحتى لا نعترف بالمشكلة ولا نلوم أنفسنا ، لجأنا إلى تتفيه وتحقير أعدائنا ، حتى لا نحقّر ونتفّه أنفسنا.

لا أكاد أصدّق وأنا أقرأ الآن ما يحصل من تشويه لكلّ من يعادينا ، لا بل يختلف معنا – مجرد اختلاف فكري – في الرأي ، لا ِأكاد أصدق بأننا أبناء وأحفاد أولئك العرب القدامى .. إذ أننا نشهر سلاح الدفاع النفسي ونبدأ في اتّهام الآخر بالتآمر والخيانة والارتباط بالأجندات الخارجية ، و ما يشابهها ، إلى أن نتهمه بالعمالة ، ونتحسّر على هذا الزمن الذي أصبحت فيه الخيانة وجهة نظر .. طبعاً الخيانة التي (صارت وجهة نظر) نقولها لكلّ من يختلف معنا في الرأي والموقف في أي موضوع من الموضوعات، حتى لو كان مجرد خلاف حول نوع الشامبو الأفضل .

إنّنا – شعوباً وقبائل – نشبه ذلك الرجل الذي أخبروه بأنّ زوجته تخونه مع الكهربائيّ ، فدخل إلى البيت ثم خرح و قال :

– كم أنتم حمقى .. الرجل هذا لا كهربائي ولا بفهم في الكهرباء .

أو ذلك الشخص الذي قالوا له أنّ أمرأته تخونه في الغابة مع أحدهم ، فانطلق إلى حيث أشاروا فوجدها ، لكنّه عاد اليهم وقال :

على الرغم من قسوة التشبيه – أعترف بذلك – إلاّ أنّنا ، للأسف ، نهرب من قضايانا ومعاركنا الفكرية ، وحتى العسكرية بذات الطريقة ، ولا نردّ على الأعداء والخصوم بالطريقة المنطقية ، أو الحازمة ، ولا نحاججهم ولا نحاول أقناعهم بوجهات نظرنا ، ولا نتطرّق أصلاً إلى المشكلة الحقيقيّة ، بل نتجاهلها ، ونشرع في تشويه الأعداء ، على عكس عادات العرب عندما كانوا يحترمون أنفسهم .

بالتأكيد لا أطلب ولا أطالب بتقدير الأعداء أكثر من اللازم ، ولا أطالب بالتعاطي معهم ، إذا لم يكن هناك ضرورة لذلك ،بل أطالب بالبحث عن آليات جديدة في خوض معاركنا ، لأنّ شتم الآخر وتحقيره لا يوصلنا إلى أيّ نتيجة ، بل يجعل العدو أكثر قوة لأننا ، حين نمارس الشتم ، نفقد موضوعيتنا وبصيرتنا .

وتلولحي يا دالية

مقالات ذات صلة