تباشير الصراع اللبناني على حصيلة هذه الحرب وسرديّتها

وسام سعادة

حرير- يظهر في ختام هذا الصيف أنّ شبكة الموانع والعراقيل والضغوط والحسابات الحائلة دون نشوب الحرب الشاملة بين إسرائيل وبين لبنان ـ حزب الله قد تمكّنت من استيعاب اللحظات الأكثر تصادمية واحتداماً في مسار «الجبهة الشمالية» للمواجهة الإقليمية، والتي تشكّل الحرب المتواصلة بمنحاها الإبادي في قطاع غزّة أتونها الرئيسي.

يظهر أيضاً أنّ الحرب الحدودية بين إسرائيل وبين حزب الله، وبالقدر نفسه الذي اكتسبت فيه «شخصية سلوكية» ليس من السهل ـ ولا المستحيل ـ انتقالها نحو الحرب الشاملة، إلا أنها اكتسبت في المقابل «استقلالية ذاتية» عن الحرب في غزة، بحيث أنّ إيقاف الأخيرة لن تترتب عليه بالضرورة ـ أو فوراً ـ تسكين الجبهة الشماليّة.

يظهر ثالثاً أن المكابرة الفعليّة على الهوّة التكنولوجية لا تسمح لمدبّجي خطاب الممانعة في طبعته الحالية بالإقرار بالتفاوت الكبير في الدمار وأثره على جانبي «الخط الأزرق».

وهنا لا بد من التمييز بين المكابرة الفعلية وبين التخفف القوليّ العموميّ من هذه المكابرة. كمثل القول أن كل الشعوب حررت أرضها من مستعمر أقوى منها تكنولوجياً. فهذا القول، رغم عموميته الشديدة، واختزاله التواريخ المتشعبة في حكاية ملحمية، إلا أنه يصحّ ـ نسبياً واجماليّاً ـ بمقدار حضور ثلاثة أمور: استفادة «السكان الأصليين» و«الشعوب» وما شئت من تسميات، من غلبتها العددية، وليس هذا هو المعطى على أرض فلسطين الانتدابية بعد نكبة 1948 والى اليوم، بل أن السمة الديموغرافية للحرب الإسرائيلية الحالية تستهدف الحيلولة دون هذا الأمر لعقود إضافية، ومن ثم فقد جمعت حركات التحرر حين أفلحت، بين الديناميات الكفاحية الشعبية وبين الكفاح المسلّح، في وقت تنزع فيه الفصائل الإسلامية المقاتلة لإسرائيل إلى ركن المساهمة الشعبية في باب المبايعة لها كفصائل وعقائد، والتصبّر على المآسي. كما أنه لم تنتصر حركة تحرر واحدة في العالم بالغلبة العددية من ناحية، وبالمواءمة بين الحراك الشعبي وبين الكفاح المسلح، إلا عندما تقاطعت مع تناقض بين امبراطورية استعمارية وأخرى، أو بين قوة إمبريالية وأخرى.

والحال أن المكابرة على حصيلة الحرب ـ حتى الآن، من شأنها أن ترفد الشرخ الأهلي وتؤجج التصادم بين السرديات المتعارضة من ألفها الى يائها في لبنان. وإن كانت عدم الرغبة ـ التي عبّرت عنها البيئة الشيعية الجنوبية في الذهاب إلى الحرب الشاملة ـ والتي أدّت قسطها من ضمن شبكة الموانع والعراقيل التي حالت دون اشتعال هكذا حرب هي أعظم أثراً من الرفض التقليديّ لسياسات «حزب الله» وحروبه لدى الطوائف الأخرى.

في الوقت نفسه، التحفظ الأهلي الشيعي الواضح حيال كل ما من شأنه الذهاب بالمواجهة نحو الحرب الكلّية أو الشاملة هو من نوع يستلزم عدم الاستعجال أو الاستسهال في قراءته.

فهو ليس شروعا في الانقلاب على هيمنة الثنائي حزب الله وأمل ضمن هذه البيئة وعليها، وبخاصة وأن الحزب ظهر بمظهر من يرد على التنكيل الإسرائيلي بأحد قادته دون الذهاب للمواجهة الشاملة، ومن يلتقط إشارات التحفظ بل التذمّر لدى أبناء بيئته.

ولئن كان الدمار الكبير في القرى الشيعية الأمامية يضغط بالنتيجة على سردية «حرب المشاغلة» التي أرادها الحزب، فإن تمكّنه من خوض مواجهة متواصلة مع الجيش الإسرائيلي مدة أحد عشر شهراً حتى الآن، مع بقاء معظم المناطق ذات الكثافة الشيعية جنوباً وضاحية وبقاعاً بمنأى عن النزوع التدميريّ الإسرائيلي، إنما يفرض نظرة أكثر تأنّياً. فشيعة لبنان لا يزالون بأكثريتهم ينظرون إلى المواجهة الحالية على أن حزب الله دخلها اضطراراً، واستباقاً، وأنه نجح حتى الآن في إبعاد أهوالها عن أكثر مناطقهم، وأن الحرب الحالية وإن أظهرت أن شعارات الحزب لا توازيها قدراته، فقد أظهرته أيضاً بمظهر المحترف في الحرب والسياسة معاً، في مقابل ظهور أخصامه على الساحة الداخلية بمظهر الهائمين على وجوههم، وغير القادرين على التقاط معنى المفارقة التي مفادها أن ضعف الإمبراطورية الحرسية الإيرانية في الإقليم لا يترجم بالضرورة، ولا تلقائياً، تفكيكاً لعناصر شوكة الحزب في الداخل اللبناني.

لا يعني كل هذا أن أخصام الحزب في لبنان لا يستندون إلا على الوهم. ينطلقون من حيثيات جدية. في طليعتها أن الحزب ليس بمستطاعه اليوم تقديم صورة انتصارية له كما كانت الحال في أعقاب حرب تموز والتدخل في سوريا، وأنه لا ينفع طلب إصلاح في أي شأن داخلي لبناني والحزب مطبق على الخيارات الأساسية للبلد.

في المقابل لا يريد هؤلاء الأخصام الإقرار للحزب بأنه نجح في إظهار تكامله مع غريزة البقاء لدى الجماعة البشرية التي ينطلق منها، وبأن نوعاً من التطبّع المستدام مع سلاحه آخذ في الانتشار في كل العواصم الغربية. جل هؤلاء الأخصام يكثر باللائمة على مساومات سعد الحريري مع الحزب وقوى الممانعة، لكنهم لا يقرون حقيقة بأن أفول الحريرية زاد من انعدام التوازن لصالح الحزب في البلد وليس العكس. البعض عوّل على قومة 2019 الشعبية وارتداداتها، كبديل حيوي يسند هذه النقمة على الحزب. ربما كان هذا ممكناً يوم ظهرت موجة تضامنية مع استكمال التحقيق في قضية تفجير المرفأ. لكنها موجة لم تصمد كثيراً، والتحقيق حوصر بالنتيجة. أما نواب التغيير، جماعة «لا 8 ولا 14 آذار» فقد ظهر أنهم، كأي متحرك سياسي في البلد، إما 8 وإما 14 آذار، من ناحية الموقف من تغلب الحزب وسلاحه، والموقع من الصراعات الاقليمية.

أخصام الحزب يرون بوضوح أن المشهد تغير، لكنهم يغالون في تقدير مدى تبدّله، وكيف لهم أن يتفاعلوا بشكل أفضل مع الراهن والمقبل من تحديات.

إذ كيف بمستطاعك أن تلتقط حيثية الخيبة الضمنية لدى قوى الممانعة من إحداث انتصار جديد على المستوى اللبناني، وبين تمكنها من تفعيل عناصر القدرة على الاحتفاظ بعناصر غلبتها في اللعبة الداخلية كما في اللعبة التفاوضية بين الأمريكيين وبين ما يفترض أنه «لبنان»؟ هذا يستدعي قدرا من الواقعية لا يبدو أن أخصام الحزب في الداخل اللبناني يتلهفون له. حتى الساعة: لاواقعية خطاب أشاوس الممانعين ضد الإمبريالية والاستكبار هي نفسها لاواقعيتهم هم تجاه غلبة الممانعين على لبنان.

يبقى أنه، وفي بلد يجرجر وراءه انهياراً مالياً وفراغاً دستورياً وانقساماً أهلياً ـ نفسياً كبيراً، فإن ضعف أخصام الحزب لا يمكن أن يجيّر له اليوم كقوة، مثلما لا يمكن أن تجيّر تناقضات الحرب الحالية لهم كقوة. وبين أخصام الحزب المسيحيين قوة منظمة أساسية جماهيرية وحيدة، هي «القوات» لكن أغلب أخصامه الداخليين الآخرين غير قادرين على التفاعل الايجابي معها، فهم إما على يسارها، باسم «الوحدة الإسلامية المسيحية» وإما على يمينها، من موقع الذهاب حتى النهاية في موضوع الفدرالية. أما عند المسلمين السنّة، فإن كل البدائل عن سعد الحريري لم يظهر لها ما يوحي بأنها قادرة على إقناع شريحة واسعة من الناس. حرب غزة أبعدت نسبة عالية من المسلمين السنة عن «السياديين المسيحيين» من دون أن تقربهم من حزب الله إلا في حالات سرعان ما أدّت عملياً إلى المفعول العكسي: انتعاشة الارتياب، وإن يكن بمنحى مختلف تماماً عن المزاج السيادي المسيحي، على تنويعاته.

وإذا كانت الحرب الشاملة مع إسرائيل قد تراجعت احتمالاتها أو تأجلت، لا يمكن في اللحظة الحالية القول حيال الأزمة الداخلية اللبنانية إلا أن عناصر اشتعالها كثيرة، وشبكة العوامل والحسابات الحائلة دون هذا الاشتعال هشّة. البلد مقبل على خريف ليس أقل من صيفه الآفل توتراً، مع رجحان التنكيه «الداخلي» لموجة التوتر الجديدة. أما خبر توقيف الحاكم السابق للمصرف المركزي، رياض سلامة، فإنه من النوع الذي عادة ما يقابل بتهليل جماعي، يعقبه السؤال «لماذا لوحده» ثم التظلّم للمرتكب. هذا في بلد ظهر أن نظامه السياسي كما المالي كما الجنائي غير قادر حتى على تقديم «كبش فداء» ذات ليلة، إلا ويتحرك من يريد استرداد هذا الكبش عند الصباح.

مقالات ذات صلة