في مشروعيّة طلب ضماناتٍ من أميركا بشأن غزّة

أنيس قاسم

حرير- صدر قرار مجلس الأمن رقم 2735 في 10 يونيو/ حزيران الجاري، الذي طالب بوقف إطلاق النار في قطاع غزّة ستة أسابيع، والإفراج عمّن يُسمّون “الرهائن”، ثم نبدأ في مرحلة يلفّها الضباب وعدم الوضوح، وإن كانت مليئة بالكلمات المنمّقة، والتي لا تحمل أي مضمون. وأبدى المفاوض الفلسطيني براعة وذكاءً في التعليق على الجوانب الإيجابية في القرار، لكنه طالب بضماناتٍ أميركية للفترة التي تلي الإفراج عن “الرهائن”. وهنا دخلنا في مرحلة التأتأة والفأفأة الأميركية، ما يعني عدم جدّية العرض الأميركي. وقد أحسن المفاوض الفلسطيني صنعاً حين رفض القرار بعد اختفاء الضمانات. ولا بدّ من التأكيد مرّة أخرى أن إصرار المقاومة على ضمانات أميركية كان طلباً محقّاً وفي مكانه. والمؤمن لا يُلدغ من الجُحر مرّتين! وقبل الانتقال إلى طلب الضمانات، يجب التذكير بأن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، لم يتوقّف عن الإلحاح على ضرورة الحصول على جواب حركة حماس بقبول قرار مجلس الأمن. وقال، ولم يكن دقيقاً في قوله، إن العالم وافق على القرار وينتظر موافقة “حماس”. وقد اجتمع بلينكن مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، مطوّلاً، لكنه لم ينقل عن الأخير أنه وافق على القرار، ولم يصدُر أي تصريح عن نتنياهو بقبوله، بل ظلّ هذا يتمسّك بموقفه أن الحرب لن تتوقف إلّا بإحراز “النصر المطلق”، من دون أن يحدّد لنا حدود هذا “المطلق”.

بداية، ليس في طلب “حماس” ضمانات من الجانب الأميركي تجاوزاً للعرف أو للسوابق أو للممارسة الدولية، بل يجب أن يكون نقطة البدء، لأسباب عديدة. الدرس الذي يجب أن يظلّ ماثلاً في البال هو المؤامرة الثلاثية بين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في عام 1956 قبل العدوان الثلاثي على مصر. حين اجتمع قادة الدول الثلاث في سيفر (جنوب باريس)، في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 1956، طرح رئيس الوزراء الفرنسي، غي موليه، خطّة الهجوم على مصر وإسقاط رئيسها جمال عبد الناصر ودور إسرائيل في العملية. وافق رئيس وزراء الأخيرة، بن غوريون، لكنه قال إن إسرائيل تحتاج “ضمانات” من فرنسا وبريطانيا، فإذا كانت إسرائيل، التي هي أساساً صناعة بريطانية فرنسية، تحتاج ضمانات من أربابها، فمن باب أَولى أن تطلب “حماس” ضمانات من “أرباب” العدو الفاشي. والضمانات التي طلبها بن غوريون هي لحماية المدن “الإسرائيلية”، فيما لو هوجمت من الطيران المصري. وهنا استعدّت فرنسا لوضع سربٍ من المقاتلات الفرنسية في إسرائيل، ولكن بن غوريون اشترط وضع علامات سلاح الجو الإسرائيلي عليها بدلاً من علامات الفرنسي. وطلب من بريطانيا تعهّداً بألّا تلتزم بالمعاهدة البريطاينة – الأردنية إذا تدخّل الأردن لنجدة مصر، ووافقت بريطانيا، ووقّعت تعهّداً مكتوباً بألّا تساعد الأردن في تلك الحالة. وعلى هذا وقّعت الأطراف الثلاثة على ما يُسمّى “بروتوكول سيفر”، الذي ظلّ اتفاقاً سرّياً فترة طويلة. وحين بدأ العدوان الثلاثي على مصر في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1956، نُفِّذ الاتفاق حسب ما هو مرسوم.

ونذكر الاحتفالية الكبرى في ساحة البيت الأبيض في سبتمبر/ أيلول 1993، حين كان الرئيس الأميركي كلينتون العرّاب الأبرز في حفل توقيع اتفاقية إعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل (اتفاقية أوسلو)، ووقّع عليها شاهداً، ما أعطى انطباعاً قوياً بأن الولايات المتحدة “ضامن” لتنفيذها. والكل يعلم، وأولهم الرئيس كلينتون، كيف عبثت إسرائيل بالنصوص والمفاوضات طوال الوقت بسوء نيّة وبمنهج ملتوٍ ومراوغة شديدة. وكان كلينتون هو الراعي الرسمي لتلك المراوغات، مع العلم أن الذي صاغ اتفاقيات أوسلو أساساً هو الجانب الإسرائيلي، أي إن الولايات المتحدة كانت على علم تام بتلك الواقعة، ومع ذلك سمح كلينتون لإسرائيل بالخداع والمراوغة في نصوصٍ هي التي صنعتها. وكان عدم إصدار تعهد مكتوب من الرئيس الأميركي سبباً في تملّص إسرائيل من تلك الالتزامات.

رجوعاً إلى الوراء، حين تقدّمت إسرائيل بطلب العضوية في الأمم المتحدة، وبناءً على إصرار بعض الأعضاء على الطلب من ممثل إسرائيل، وكان آنئذٍ وزير الخارجية أبا إيبان، أن يؤكّد التزام إسرائيل بالقرارات الأممية السابقة والمتعلقة بسلوكها، ما كان من إيبان إلّا أن أعلن التزام إسرائيل بقرار الجمعية العامة 181 الذي اقترح تقسيم فلسطين، وخصّص 55% منها للدولة اليهودية، في وقت كانت تحتلّ 78% من فلسطين، ما يعني احتلالها أجزاءً من الأراضي المخصّصة لفلسطين، كذلك أعلن التزام إسرائيل بقرار مجلس الأمن 194 الخاص بحقّ اللاجئين في العودة. ويعلم الجميع ماذا جرى بالالتزامين، وكيف تمكّنت إسرائيل من المخادعة والمراوغة حتى تاريخه، ولم تكن هناك مطالباتٌ بأن تقدّم إسرائيل تعهدات مكتوبة إلى رئيس دولة عربية، مثل مصر أو السعودية، بل ظلّ كلام مندوبها مجرّد خطاب.

وأخيراً، وليس آخراً، أصدرت محكمة العدل الدولية ثلاثة قرارات مؤقتة ما بين يناير/ كانون الثاني ومايو/ أيار الماضيين “أمرت” بموجبها إسرائيل باتّخاذ الإجراءات اللازمة لوقف عملية القتل والتشريد والتجويع، وتطلب من إسرائيل إدخال المعونات الإنسانية. واستخدمت المحكمة في المرة الثانية، كما بعض القضاة، لغة شديدة. وهذه القرارات القضائية ملزمة لإسرائيل وواجبة النفاذ. ومع ذلك، ما زالت إسرائيل تراوغ في تنفيذها، يساعدها في ذلك بلينكن الذي لا يزال يكرّر أن ما يجري في غزّة ليس “إبادة جماعيّة”.

ولا بد من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة، حين أصدر مجلس الأمن قراره رقم 2728 في 14/3/2024 وقفاً مؤقتاً لإطلاق النار في غزّة، وقد امتنعت عن التصويت عليه، سارعت إلى إعلان أنه قرار غير ملزم، ما منح إسرائيل ضوءاً أخضر للاستمرار في حرب الإبادة والتجويع، ولم تلتزم بأيٍّ من بنوده. ولو كانت الولايات المتحدة حسنة النيّة، وترغب حقاً في وقف شامل ونهائي لإطلاق النار، لذهبت إلى مجلس الأمن، وطلبت قراراً بموجب الفصل السابع الذي يكون ملزماً للكافة، رغم معارضة بعض الدول. وفي غياب ذلك، لا بدّ أن السوابق تعلّم المفاوض الفلسطيني دروساً قاسيةً في عدم الاطمئنان إلى ما تقوله الولايات المتحدة مهما استخدمت من كلمات منمّقة، ومهما حاول وزير خارجيتها إخفاء تواطئه مع الحكومة الإسرائيلية، فالضمانات لا تكون الّا مكتوبة وموقّعة من صاحب السلطة والصلاحية.

 

مقالات ذات صلة