في توابع جريمة النصيرات

شريف أمين

حرير- مساء الثامن من يونيو/ حزيران الجاري، أعلن المتحدّث باسم جيش الاحتلال استعادة أربعة أسرى من المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية في مخيم النصيرات في قطاع غزّة، وهذه هي العملية الأولى لاستعادة أسرى أحياء من يد حركات المقاومة، إذ كانت عملية رفح في 12 فبراير/ شباط 2024 قد انتهت باستعادة أسرى لدى أسرة فلسطينية، لا لدى أيٍّ من حركات المقاومة، لذا هلّل الإعلام الصهيوني لعملية النصيرات، واحتفى بنيامين نتنياهو المأزوم بها بشدّة، واعتقد لوهلة أنّه بدأ في عبور عنق الزجاجة، لكنّ العملية كشفت جوانب إخفاق، وتبعتها كوارث أخرى، وفضائح، جعلت العملية واحدة من بوابات الجحيم المفتوحة على الكيان المُحتلّ ونظام نتنياهو.

ارتكبت قوات الاحتلال مجزرة راح ضحيتها 274 شهيداً، وعدة أسرى إسرائيليين (لم يُعلن عددهم)، لكنّ العملية شابتها عوائق عملياتية رغم احتشاد 800 مقاتل صهيوني لها، وقصف برّي وبحري وجوّي، وكادت العملية أن تؤول إلى مقتل الأسرى الأربعة مع باقي الذين قُتلوا، وغير ذلك من التفاصيل العملياتية التي لا داعي لتكرارها، لكنّ الأكثر أهمّية ما كشفته هذه العملية من جوانب إخفاق لأجهزة الاحتلال ولأجهزة دولية.

احتفت الدوائر الرسمية الأميركية بعملية استعادة الأسرى، بالطبع، من دون ذكرٍ لخسائر الفلسطينيين من المدنيين، وكشفت مصادر عن مشاركة أميركية في العملية الدموية استخباراتياً، وتقديم “تقنيّات لم تكن موجودة لدى الاحتلال”، فضلاً عن استخدام الرصيف العائم قبالة سواحل غزّة، وما يُثار عن استخدام شاحنة إغاثة أقلّت جنوداً صهاينة. وبغضّ النظر عن النفي الأميركي القاطع لاستخدام الرصيف، يبدو أنّ دعم ما تُسمى “خلية الرهائن” مُؤكّد.

أعاد الحديث عن هذه الخلية الذاكرة إلى بدايات الحرب، فقد أعلنت الولايات المتحدة مشاركتها في عمليات البحث عن الأسرى، كما أعلنت بريطانيا قيامها بعمليات استخباراتية من الجو للمساهمة في البحث أيضاً، ورغم مشاركة استخبارات اثنتين من أكبر الدول، فضلاً عن الأجهزة الإسرائيلية، التي تزعم أنّها الأفضل في المنطقة، لم يستطيعوا الوصول إلى أسرى المقاومة أحياءَ إلا بعد ثمانية أشهر من الحرب، فهل هذا نجاح استخباراتي أم إعلان فشل رسمي في صورة احتفاء؟!… أيّ مسؤول استخباراتي لديه بعض الكرامة كان سيرفض الاحتفاء بهذه العملية لأنّها إعلان هزيمةٍ أكثر منها إعلان انتصار، كما أنّها زادت من ترسيخ فكرة ضعف الاستخبارات الإسرائيلية وانعدام كفاءتها وحدها، من دون مساعدة من راعيتها الأميركية، وهي الصورة التي ظهرت في هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023).

وجوه الهزيمة في تلك العملية مُتعدّدة، فالقطاع محدود المساحة، وليست فيه جبال أو تضاريس وعرة، والأميركيون والبريطانيون والصهاينة ليسوا في أفغانستان بمساحتها وتضاريسها الصعبة، ثمّ إنّ القطاع تعرّض إلى تدمير واسع، ما يسهّل عمليات البحث فيه، وتتحرّك القوات العسكرية داخله وتتمركز في مناطق مُتعدّدة، ولديها وسائل تكنولوجية تفوق حركات المقاومة، ربّما بخمسين سنة، ورغم هذا كلّه استطاعت استخبارات ثلاث دول الوصول إلى أول مجموعتَين في مكان “فوق الأرض”، والمكان في حدّ ذاته مُؤشّرٌ آخر إلى الفشل، وعلى مناعة الأنفاق أمام الدُّخلاء، فهذه العناصر كلّها مجتمعة تخبرنا جيّداً مَنْ هو صاحب اليد العليا، رغم استعادة أربعة أسرى في النهاية. أعطت العملية لنتنياهو أملاً في تحسين وضعه، لكنّ المتحدث باسم كتائب الشهيد عزّ الدين القسام أبو عبيدة أعلن سريعاً مقتل عدة أسرى في العملية ذاتها، وأحدهم أميركي الجنسية، ليصبّ ماءً بارداً على جذوة الأمل لنتنياهو. وتمسّك بيني غانتس بقرار استقالته، ولحقه غادي آيزنكوت، فضلاً عمّا صحب العملية من أزمات عملياتية، ومقتل ضابط كبير، ما جعل عائلات الأسرى تندفع في تظاهرات جديدة خوفاً على حياة ذويها، وعاد المشهد السياسي لنتنياهو إلى التعقيد.

تُثار، حالياً، أقاويل عن نيّة الأميركيين عقد صفقة منفصلة مع حركة حماس، من أجل الأسرى الذين يحملون الجنسية الأميركية، ما يعطي دلالة واضحة على أنّهم يزيدون الضغط على نتنياهو وإحراجه بإعلان غير مباشر أنّ مسار الحرب لن يعيد أحداً، ما ستكون له تبعات عسيرة جدّاً على “بيبي”. كذلك، جاء البعد الأخلاقي عامل تأثير سلبياً، إذ تعرّضت العملية لانتقادات دولية بسبب الخسارة الهائلة للمدنيين، كما أنّ أقاويل استخدام شاحنات الإغاثة ورصيف المساعدات الأميركي أضافا سقوطاً أخلاقياً جديداً إلى الأميركيين والصهاينة على السواء، ثم جاء سياق الحدَث في ظلّ مناقشة الأمم المتّحدة وضع الكيان في القائمة السوداء، ما جعل الدفاع الصهيوني عن نفسه غارقاً في بيئة عدائية بسبب السياق المُرسّخ لصورته الهمجية، فأصبحت عملية النصيرات (أرنون) سبباً في تصاعد الدعوات إلى صفقة سياسية، بدلاً من تكرار المخاطرة التي شابت العملية.

تتزايد الضغوط الداخلية والدولية ضدّ نتنياهو، إلا أنّها بمعزل عن أيّ ضغط عربي يمكنه أن يوقف العربدة الصهيونية، وللأسف! صرنا في زمن غابت فيه المصالح العربية، وتتحكّم رغبات الحُكّام في توجيه السياسة الخارجية والداخلية، ولو كانت هناك ضغوط عربية مشابهة لعقد التسعينيات أو الألفية الأولى، رغم رمزيّتها، فلعلّنا ما كنا لنصل إلى عشرات آلاف من الشهداء وضِعْفيهم من الجرحى، وإلى المجاعة التي أصابت الأحياء، فصار قَدَرُ الفلسطينيين أن يخوضوا معركتهم من دون دعم رسمي يشوب طُهْر مقاومتهم ونضالهم وقضيّتهم الشريفة.

دخلت القضية الفلسطينية أحرج أوقاتها، إمّا أن تُسقط عن كاهلها سنوات الضعف العربي المُمتدّ منذ عام 1948، أو أن تنتكس وتُطوى قدرتها على الصمود أمام مخطّطات التهجير، وهذا مرهون بفصائل المقاومة ومفاوضيها، وصمود الشعب الفلسطيني على هذا الاختيار، وصمود الغزّيين هو سند المقاومين وجذوة الأمل المُشتعلة في قلوبهم، ومع تصاعد الضغوط السياسية على جميع الأطراف سيبقى الرهان على من ستلفظه حاضنته الشعبية أولاً، وبإذن الله! سيكون النصر حليف الفلسطينيين، والخذلان لكلّ من عاداهم، حتّى من بني جلدتهم.

مقالات ذات صلة