أمريكا والسودان… العقوبات الكيميائية

ناصر النور

حرير- أصدرت الخارجية الأمريكية الخميس الماضي بيانا يفرض عقوبات – ليس للمرة الأولى- على الحكومة السودانية لاستخدامها سلاحا محظورا دوليا ضد المواطنين في حربها الجارية، والدعم السريع. وتتبع هذه العقوبات – كما ورد في البيان- عقوبات تشمل تقييد الصادرات الأمريكية إلى البلاد، ووضع حدود للاقتراض المالي، إلا أن اللافت أن تعود الولايات المتحدة لاستخدام سلاح العقوبات، وهي من بين أكثر الدول نفوذا وقدرة على إنزاله، بما تتصوره سياساتها الخارجية وتحدده من مواقف من أطراف الصراعات الدائرة في دول العالم. فالدول التي تشملها العقوبات الأمريكية تكاد تغطي كل القارات، من روسيا إلى كوريا الشمال إلى كوبا وإيران وجماعات أخرى تصنفها كمهدد لأمنها القومي. وقد سبق أن أصدرت الولايات المتحدة عقوبات ضد قوات الدعم السريع، طرف الصراع الآخر، متهمة إياه بارتكاب جرائم حرب.

فما جدوى هذه العقوبات المجربة في العلاقة بين البلدين، منذ أن طبقت في المرة الأولى عام 1993 بوضع السودان على الدول الراعية للإرهاب، ولم ترفع إلا في مرحلة الحكومة الانتقالية 2020 برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك، وقت إدارة ترامب الأولى، بعدما سدد السودان تعويضات مالية طائلة، فالأثر المترتب على هذه العقوبات الجديدة في جوانبها الاقتصادية، حسب البيان، بما يشمل تقييد الصادرات الأمريكية إلى السودان، ومنع الحكومة السودانية من الوصول إلى خطوط الائتمان التابعة للحكومة الأمريكية، وآثارها بليغة على اقتصاد دولة يقوم على المساعدات والإعانات الخارجية، بغض النظر عن ردود الفعل السياسية.

مثل هذه العقوبات قد لا يكون لها تأثير مباشر على مجريات الحرب، التي يحتاج وقفها إلى أكثر مما تحدثه العقوبات الاقتصادية، إلا أنها تمثل إدانة سياسية صادرة عن دولة كبرى متحكمة في الاقتصاد والسياسية الدولية، ما يعني التضييق على طرف الصراع على المستوى الدولي.

ولكن ما هو التفسير الأرجح في هذا التوقيت ومدى تأثير مثل هذه العقوبات على مجريات الأزمة السودانية بعد عامين وأكثر من الحرب المستمرة بين طرفي الصراع؟ فمصدر هذه العقوبات، استنادا لتقرير صحيفة «نيويورك تايمز» في يناير الماضي باستخدامها قوات الجيش لغاز الكلور في حادثتين في أماكن نائية، وإن لم تكن هنالك أدلة موثقة تدعم هذه المزاعم. وكان هذا الاتهام قد أدى إلى ضرب مصنع الشفاء الدوائي عام 1998 بتهمة إنتاجه للأسلحة الكيميائية. ويبدو أن الولايات المتحدة واجهت مصداقيتها دائما في الدعاوى المتعلقة بالأسلحة المحظورة، وأسلحة الدمار الشامل، كما في الحالة العراقية التي ثبت لاحقا عدم صحتها. وظل الموقف الأمريكي من حرب السودان، منذ إدارة جو بايدن متأرجحا تارة بين الضغط على الطرفين لوصول المساعدات الإنسانية، وتارة عقوبات تفرضها على قيادات الطرفين والشركات التابعة لهما، وكلاهما لم يكن لديه تأثيره المباشر على وقف الحرب. وبما أن إدارة الرئيس دونالد ترامب، الذي عادة ما تتجاوز سياساته حدود المعقول ويصعب التنبؤ بمراميها، متجاوزا تقاليد السياسات الخارجية الأمريكية التقليدية، فإن ما هو متوقع حيال الأزمة السودانية يدخل في نطاق التخمين، عما ستتخذه إدارته تجاه الصراع أكثر من التحليل والرصد. والشاهد أن حرب السودان لم يكن لها سقف أخلاقي على نحو ما تتطلبه الحروب من حماية للمدنيين، وعدم استخدام الأسلحة المحظورة دوليا، وبقية ما يرد في مصفوفة الوثائق الخاصة بحقوق الإنسان، وحماية الأطراف غير المقاتلة وبنودها، وكل ما يحول بين المدنيين والانتهاكات الجسيمة التي ترتكب ضدهم عادة في الحروب. فالحرب في السودان استخدم فيها كل ما من شأنه أن يفني الآخر، وما استخدام الأسلحة الثقيلة في المدن والقصف الجوي التدميري، ومؤخراً استخدام المسيرات الاستراتيجية لإحداث أكبر تدمير مهما تكن طبيعة الأهداف المستهدفة.

جاء الرد الحكومي ممثلا في الجيش المتهم باستخدام ما برر فرض هذه العقوبات؛ كما هو متوقع، رفضا شديدا لهذه الاتهامات التي وصفت بالابتزازية وغيرها من اتهامات لم تختلف عما درجت عليه مجموعة النظام السابق، الذي واجه عقوبات مماثلة لعقود من الزمان. وعلى الرغم من تعاونه السابق في ملف الإرهاب مع الولايات المتحدة، تفاديا لمصير أنظمة مماثلة في المنطقة، كان يخشى الضغوط الأمريكية، إلا أن ذلك لم يخفف من ثقل العقوبات لحين سقوطه عام 2019. وفي هذه المرحلة الحرجة في هذا التوقيت، حيث تواجه حكومة الأمر الواقع في بورتسودان موقفا يمثل ضغطا جديدا، وهي تخوض حربا تتطلب موارد مفتوحة ستحد هذه العقوبات على ما تبقى منها. وفي سياق العلاقات بين البلدين التي لا ترقى إلى مستوى يعزز من مصالح مشتركة على الصعيد الاقتصادي في الميزان التجاري، أو التحالف العسكري والسياسي، ما يجنب الحكومة السودانية سياسية الحصار الاقتصادي الأمريكي الخانق، فالإدارة الأمريكية التي ظل موقفها وبالتالي تأثيرها على مجريات الصراع الدائر بين الطرفين لا يتعدى الإدانات والمناشدات بدعوة الطرفين لوقف العنف المتصاعد، أو فرض العقوبات الاقتصادية كأقصى أثر يمكن أن تحدثه السياسات الأمريكية حيال النزاع في السودان. وهذا على خلاف ما تبديه الولايات المتحدة من تدخل أكثر فاعلية باختلاف المنطقة والوزن الاقتصادي. وقد تركت شأن الأزمة السودانية لحلفائها في المنطقة، خاصة من له دور مباشر في توجيه الأزمة ودعمها. ولكن الولايات المتحدة مع اسهامها في المبادرة السعودية -الأمريكية للمفاوضات بعيد اندلاع الحرب وتعيينها توم بيرلو مبعوثا خاصا من إدارة الرئيس السابق جو بايدن، إلا أن التأثير الأمريكي على حل النزاع لم يكن بالقدر الكافي، عما إذا كان ذلك من سياسات أو قرارات، أو ممارسة ضغط على الطرفين بوسائل تتقن تطبيقها في مواقع أخرى. فإذا كانت العقوبات ستطال الحكومة السودانية، بما أن لديها مؤسسات مالية ترتبط بالنظام المالي العالمي سيتأثر بالعقوبات، ولكن ماذا عن قوات الدعم السريع التي لا تلزمها بما يلزم الدولة من قيود سياسية ودبلوماسية، وهي المشمولة سابقا بعقوبات مشابهة، ما يعني أن مصادرها المالية التي تعتمد على خارج النظام المالي العالمي المباشر ستظل مستمرة.

وأيا تكن الدواعي الأمريكية من وراء هذه العقوبات، فإنها كشفت طبيعة ما يجري في حرب السودان المستمرة على مدى عامين وما نتج عنها من فظائع وويلات بكل الأسلحة المستخدمة، التي أدت إلى مقتل، كما تشير بعض التقارير، إلى أكثر من مئة وخمسين ألفا ونزوح الملايين في الداخل والخارج. لذا فإن الأمر يتطلب حظرا وإدانة بالقياس إلى طبيعة الجرائم الإنسانية المرتكبة فيها. فالتركيب الكيميائي للمواد المستخدمة في القتل وتأثيرها في دائرة القتل والدمار لا يختلف في النتيجة، وإن اختلفت نوعية السلاح بين سلاح تقليدي، أو آخر أشد فتكا كالأسلحة الكيميائية والبيولوجية. فالسودان من بين الدول الموقعة على معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية، التي استندت إليها العقوبات الأمريكية، ما يلزمها بالامتناع عن استخدامه، ولكن دائما ما كانت الوثائق والمعاهدات تفقد صلاحيتها روحا ونصا في الحروب.

الطرفان الجيش والدعم السريع، كما تشير الوقائع على الأرض تتباعد بينهما مسافة التوصل إلى حل للأزمة تفاوضيا، ما يعني استمرارا للحالة العسكرية مع اختلال مواقع السيطرة، خاصة بالنسبة للدعم السريع الذي اتجه في الوقت نفسه إلى استخدام سلاح المسيرات لضرب أهدافا بعيدة. فالموقف مستمر على وتيرته العسكرية المتصاعدة وتأثيراته الإنسانية على ضحاياه من المدنيين من تقتيل وأوبئة منتشرة. ومع هذه العقوبات الجديدة التي ستهز أوضاعا اقتصادية متهالكة ستزداد معاناة المواطنين. ولأن ما وصلت إليه الحرب الجارية أثر على علاقات السودان الدولية وما شابها من تدخل دعما لأطراف الصراع، عقّد دور شرعية الحكومة السودانية القائمة وتحركاتها الدبلوماسية على الصعيد الدولي إلى أقصى حد ممكن.

مقالات ذات صلة