“الحشّاشين”: الدراما التاريخيّة وأَدْلَجَة التاريخ

أحمد طه

حرير- استحوذ مسلسل “الحشّاشين” على نسبة مشاهدة عريضة في الموسم الرمضاني المُنقضي، وأثار جدلاً واسعاً في الفضاءيْن الإعلامي والافتراضي، بين مؤيّد ومعارض، لم يخلُ من حدّة هنا أو هناك، بعدما طغت العوامل السياسيّة على التاريخيّة، في مضمونه وفرضت الرؤى السياسيّة نفسها على تحليله.

في البداية، يتعيّن تأكيد الدور الكبير الذي يلعبه التاريخ في حياة الأفراد والشعوب والأمم، فالتاريخ جزء من مقوّمات الشخصيّة الحضاريّة، والهويّة الوطنيّة، للشعوب، ولذاكرة الأمم، فلا يكتمل شعور الأفراد أو الجماعات بتمام تكوينها ومكانتها في الحاضر، إلا بمعرفة الجذور التاريخيّة لوجودها، وخلفيّة الصراعات التي خاضتها طوال رحلتها التاريخيّة، من الماضي وصولاً إلى مشهد الحاضر، في صورة ذهنيّة متكاملة، لا تنّفصل بعض مشاهدها عن بعض، فلا يمكن فصل التاريخ السياسي لحقبةٍ ما عن تفاعلات المشهديْن الاجتماعي والثقافي، والسياق الحضاري الذي أنتجه، وشتّى العوامل المتضافرة التي أفرزت الحدث التاريخي. بيْد أنّ تناقض المصالح في الماضي أو الحاضر يؤدّي إلى وجود روايات متعدّدة للحدث التاريخي نفسه، تتنوّع بتعدّد الأطراف المتصارعة، ورؤية كلّ منها للحدث، كما أنّ التاريخ بطبيعته قابل لعمليّة إعادة القراءة بين حين وآخر، وقد يتطرّف الأمر فيها لتكون إعادة صياغة لا إعادة قراءة فحسب، وفي أغلب الأحيان تكون تلك العمليّة مصحوبة بقدرٍ من التوظيف يصل إلى درجة التشويه، بهدف استخدام التاريخ سلاحاً من طرف في مواجهة الآخر.

أخيراً، راجت فكرة استخدام بعض فصول تاريخنا الوسيط، سلاحاً في الصراعات السياسيّة التي يشهدها الإقليم، والتي يمثّل بعضها إعادة إنتاج لصراعات قديمة تتجدّد بصياغات مختلفة وبأبطال مختلفين، وكانت الأعمال الدراميّة التاريخيّة الساحة المُثلى لتطبيق تلك الفكرة، التي استخدمت معها أحداث تاريخيّة بعينها من أجل إسباغ الشرعيّة على مسلك هذه السلطة أو تلك في مواجهة خصومها في الداخل والخارج وتسويغ ذلك المسلك للجماهير بقصد حشد التأييد الشعبي من المشاهدين، الذين يجهل قطاع عريض منهم، بطبيعة الحال، تفاصيل تلك الفصول التاريخيّة والضوابط العلميّة والمعرفيّة للتعامل معها. في هذا السياق جاء مسلسل “الحشّاشين”، الذي تناول السياق التاريخي لظهور فرقة الحشّاشين الإسماعيليّة النزاريّة الشيعيّة، ومنهجها في حشد أتباعها وأساليبها في تصفية خصومها بطريقة دمويّة جعلتها مضرب الأمثال، ونموذجاً يُحتذى للدرجة التي ربطت بها اسمها بفنّ القتل والاغتيال السياسي في اللغات الأوروبيّة الحديثة. بيْد أنّ الأزمة المُستحكمة بين السلطة في مصر وجماعة الإخوان المسلمين ألقت بظلالٍ كثيفةٍ ثقيلةٍ على خيوط العمل، الذي طغت فيه الحمولة الأيديولوجيّة والتوظيف السياسي الفجّ، والخطاب السطحي المباشر، على الجودة الفنيّة، والدقّة التاريخيّة، في آنٍ معاً، رغم التكلفة الإنتاجيّة الكبيرة.

ثمّة مقولة للراحل يوسف وهبي: “النصّ هو البطل الأوّل للعمل”، والملمح الأوّل في “الحشّاشين” هو ركاكة النصّ، الذي شابه التشويش والتلفيق في الشكل والمضمون في آنٍ معاً، فاللغة المُستخدمة فيه عاميّة مُبتذَلَة أشبه بـ”عاميّة المقاهي” في عصرنا، ربمّا كان الهدف من ذلك الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من المشاهدين، لكن العاميّة في المحصّلة النهائيّة تنال بشدّة من رونق الأعمال التاريخيّة وخصوصيّتها. أمّا الثاني فكان عدم إجادة بعض الممثّلين أداء شخصيّات تاريخيّة، فضلاً عن ضآلة قراءات الممثّل في فترة التحضير أو ما قبل التصوير، وهو ما يمكن استكشافه من خلال المشاهدة، ومن الممكن هنا استحضار أداء الراحلين الكبار، من أمثال عبد الله غيث ومحمود ياسين ونور الشريف، لشخصيّات تاريخيّة في أعمال دراميّة في الثمانينيّات والتسعينيّات، حتى نقف على حجم الفارق الكبير بينهم وبين الجيل الجديد من الممثّلين.

النقطة الأكثر أهميّة كانت الأخطاء التاريخيّة في العمل وخروجه عن الخطوط العريضة لتسلسل الأحداث وفق السياق التاريخي، كان أبرزها اعتماده رواية مرجوحة ضعيفة تقول إنّ حسن الصبّاح والشاعر عمر الخيّام والوزير نظام الملك، كانوا زملاء دراسة لأستاذ واحد، وتَعاهُد ثلاثتهم على أن أيّ واحد منهم يحقّق قبل زميليْه نجاحاً أو ثراءً، فعليه أن يساعد الآخريْن. بيْد أنّ الرواية الراجحة تقول إنّ من غير المحتمل أن يكون الثلاثة قد تعاصروا في الأصل طلّاب علم، نظراً إلى الفارق العُمري الكبير الذي يفصل بينهم.

تعرّض المؤرِّخ والمُستشرق البريطاني برنارد لويس، في كتابه المهمّ “الحشّاشون… فرقة ثوريّة في تاريخ الإسلام” لتاريخ فرقة الحشّاشين منذ ظهورها حتى نهايتها، مستعرضاً المراحل التي مرّت بها، متتبّعاً وسائلها وأهدافها ومعتقداتها، والدور الذي لعبته في تاريخ المنطقة. وصف لويس في كتابه، حسن الصبّاح بأنه “كان كاتباً ومُفكِّراً كما كان رجل عمل”، وقال أيضاً إن الوسيلة التي اختارها أو في الأدقّ التي اخترعها الصبّاح هي “الإرهاب”، وذكر لويس أنّ الصبّاح “كشف عن عبقريّة سياسيّة بإدراكه نقاط الضعف في الملكيّات الإسلاميّة، كما كشف عن مواهب إداريّة واستراتيجيّة كبيرة، باستغلالها في هجماته الإرهابيّة”. أضاف لويس “كانت المؤسسّة السُنيَّة بجوانبها السياسيّة والعسكريّة والإداريّة والدينيّة، هي العدوّ الرئيسي للإسماعيليّة، وكان هدفهم من الاغتيالات إخافة هذه المؤسّسة وإضعافها، ثمّ إطاحتها في النهاية”.

المشكلة في “الحشّاشين” أنّ الرسالة الأساسيّة التي حملها إلى المشاهدين جاءت مباشرة بصورة فجّة، مفادها أنّ جماعات الإسلام الحركي وتنظيماته، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين (لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن تلك الجماعات لها سرديّتها الذّاتية، وذاكرتها التاريخيّة الموازية ذات المنزع التفسيري المؤامراتي لفصول تاريخنا الوسيط، والحديث) هي امتداد طبيعي/تاريخي لفرقة الحشّاشين، وأنّ قاسماً مُشتركاً كبيراً يجمع بينهما، من ناحية المعتقدات في امتلاك الحقيقة المُطلَقة، وحتميّة النص الإلهي، والأساليب المتّبعة في تجنيد الأتباع وصياغة عقولهم على السمع والطاعة للقيادات “الربّانيّة”، والوسائل في ممارسة العنف والإرهاب تجاه السلطة. وقد طغت تلك الرسالة التي حملت إسقاطاً سياسيّاً فاقعاً، على تحرّي الموضوعيّة والدقّة التاريخيّة، وبدت مُقحَمة على الجوانب الإبداعيّة والفنيّة، فقادت الرسالةُ الفجّةُ السياقَ التاريخي والدرامي للعمل، وليس العكس، ممّا أنتج في المحصّلة النهائيّة صورة مشوّهة، على الجانبيْن التاريخي والفنّي.

جاء “الحشّاشين” في الاتجاه المضادّ لأعمال دراميّة تاريخيّة أخرى، خرجت في السنوات الماضية على خلفيّة المناكفات والصراعات التي تشهدها المنطقة، أثار مضمونها جدلاً مماثلاً، بعدما عمد صانعوها إلى تطويع أحداث تاريخيّة بعينها، إمّا بهدف تمجيد الذّات الوطنيّة وجذورها التاريخيّة وتقديسها في عصر دولة الخلافة الإمبراطوريّة، وإمّا بهدف المكايدة السياسيّة للطرف الآخر وتغليب الانحيازات الأيديولوجيّة على الحدّ الأدنى من الضوابط المعرفيّة.

يظلّ القدر المُتيقّن منه أنّ فصول تاريخنا أضحت ساحة للتجاذبات والصراعات السياسيّة المعاصرة، بين السلطات الحاكمة وخصومها، وأنّ كلّ طرف من تلك الأطراف المتصارعة يسعى لبناء سرديّة تاريخيّة ذاتيّة لأتباعه تتضمّن إعادة صياغة مشاهد التاريخ في صورة انتقائيّة مُتعسّفة، بهدف تصفية حسابات تاريخيّة من جهة، وبهدف اجتذاب الجماهير إلى صفّه من جهة أخرى، من دون إدراكٍ لمغبّة الآثار الخطيرة والندوب العميقة التي تتركها تلك النكايا والمكايدات على صفحات عقول الأجيال الجديدة، التي تعاني تشويشاً واضطراباً كبيراً، وهو أمر سنجني حصاده الكارثي لاحقاً.

مقالات ذات صلة