شهوة التوسّع والاستيطان الصهيوني من غزّة إلى التطبيع مع الخليج

خالد الحروب

حرير- الاستيطان والتوسّع يُجسّدان الدورة الدموية للصهيونية، إذا توقّفا انهار المشروع، كما يؤشّر تاريخ هذه الأيديولوجية منذ وُلدت في أواخر القرن التاسع عشر. إنهما يتّخذان أشكالاً يتسّع طيفها، من المباشرة الفجّة إلى المواربة الناعمة. السُذّج من المطبّعين العرب، من الخليج إلى المحيط، “يطيشون” على سطح شعارات النمط الموارب والناعم من التوسّع، مثل التعايش الديني والتعاون التجاري، وغير ذلك. كلامٌ رخوٌ يبيعهم إياه حاخاماتٌ ورجالُ أعمالٍ و”فنّانون” يأتون باسمين إلى بلادنا في أيديهم جوازات سفر أميركية وغربية، وفي قلوبهم إسرائيل والصهيونية. المرحلة الأوّلية في نعومة الكلام التعايشي والمشروعات التعاونية “البريئة” تُؤسّس لمرحلة التوحّش والسيطرة اللاحقة. هذا ديدن الكولونيالية وتاريخها حيثما كانت، وأنّى تسرطنت. والصهيونية مشروع كولونيالي توسّعي في الجوهر، توسّعي كما عرّفها تيودور هرتزل (1904)، ونسخ عنه التعريف ذاته قادتها المتتابعون إلى زمننا هذا. وفي الوقت ذاته، هي مشروع طفيلي كولونيالي كما عَرَفَها العالم، إذ اعتاشت في كنف عفن المشروعات الاستعمارية الأوروبية الكبرى. في الزمن الحالي تتوسع نحو الجوار، ثم جوار الجوار، نحو الأردن، وسورية، ولبنان ومصر، ثم العراق والخليج، والسودان والمغرب العربي.

نعومة التسلّل الأولي، ثمّ خشونة السيطرة اللاحقة، هي درس التاريخ الذي لا يريد عرب التطبيع قراءته وهضمه. تجارب الاستعمار الأوروبي في أفريقيا غنيّة بدروس غنيّة وبشعة، منها درس “النعومة أولاً، الاحتلال ثانياً”، يُكرّره أفارقة اليوم بمرارة ويصفعون بسببه، تخيّلاً، وجوه أجدادهم السُّذج. يقول الدرس ما يلي: مراحل الاستعمار والاحتلال الأبيض للقارّة السمراء شهدت ثلاث حِقَب. تأتي أولاً البعثات الدينية، يتبعها رجال الأعمال، ثم تجيء سفن الحرب. الدين و”البزنس” الناعمان يقومان بتهيئة الأرض وطمأنة أهل البلاد الأصليين إزاء الوافدين الأجانب. رجل الدين ورجل الأعمال يجلبان الإيمان البريء والتجارة النافعة، إلى جانب أدوية ومخترعات تخدم الناس وتساعدهم على التقدّم، تماماً كما وعود اليوم الإسرائيلية للدول المُطَبّعة بأنّها ستتبادل مع تلك الدول الخبرات والعلوم، بل ستتحالف معها ضد أعدائها (!) يقع كثير من الناس في شرك المرحلة الناعمة من التوسّع، ويصير بعضهم مدافعين عن المُستعمِر، يبسطون مرافعاتهم بحناجر قوية. هؤلاء همّ أرذل طبقة في أي مجتمع، سواء أكان تحالفهم مع المُستعمِر عن دراية أم عن غباء. من دونهم، وكما تشير الخبرة التاريخية في أغلب حالات الاستعمار والاحتلال، ما كان لغالبية تلك التجارب أن تنجح.

مع سيطرة الصهيونية الدينية على السياسة والمجتمع في إسرائيل، ضُخّت دفقاتٌ جديدةٌ في دورة الاستيطان والتوسّع الصهيوني. ما نراه الآن في الضفّة الغربية من سعار وفاشيّة لا تُوصف من المستوطنين ضدّ القرى الفلسطينية يؤشّر إلى الاندفاعة المجنونة لهذا الاستيطان. في سنوات ليست بعيدة، كان المستوطنون في الضفة الغربية يخشون على حياتهم ويُغلّف كثيراً منهم الشعور بالسرقة والخوف من أهل البلاد الأصليين. الآن، انقلب الحال في ظلّ العقود الطوال العجاف من “أوسلو” (1993)، وتزايد وتائر الاستيطان والمستوطنين، فتقترب أعدادهم من مليون مستوطن في الضفّة والقدس. هؤلاء المستوطنون الذين يسيطر ممثّلوهم على الحكومة والكنيست والتعليم، وكلّ المفاصل الحيوية في الدولة، تتسع شهيتهم إلى ما وراء “الحدود”. يستخدمون خرائط توراتية تقول إنّ شرق نهر الأردن والجولان، وقسماً من لبنان (إلى نهر الليطاني)، هي أجزاء من “إسرائيل الكبرى”، التي تمتدّ جنوباً لتضمّ شمال الجزيرة العربية وصولاً إلى المدينة المنوّرة ومكة. كثيرون سيقولون الآن إنّ هذا ضرب من الخيال والتخويف غير العقلاني، فقد تغيّر العالم، وما كان ممكناً بالأمس لم يعد وارداً اليوم. كثير من هذه المقولات، وربّما حرفياً، كرّرها فلسطينيون وعثمانيون كثر، قادة رسميون، وأبناء الناس العاديين، عندما كان بعضهم يحذّر من الأطماع الصهيونية في أوائل القرن العشرين في فلسطين والمنطقة. من هو المجنون الذي قد يقتنع بترّهات بعض اليهود التي تنادي بدولة يهودية في فلسطين في وقت كانت فيه الإمبراطورية العثمانية تحمي بلاد الشام وتسيطر عليها كلّها، وفيالق جيوشها تمتدّ إلى قلب أوروبا؟ مع ذلك، فإنّ تلك الترّهات حدثت وصارت هي الواقع، وكلّ من استخف بها ضرب رأسه بالحائط بعدما سقطت فلسطين في أيدي البريطانيين، وبدأ المشروع يتحقق على الأرض. سُذّج اليوم الذين يصفون كلّ تحذير من إسرائيل والصهيونية بأنّه ترّهات، سوف يشتمهم أحفادهم في المستقبل إن لم يصبّوا اللعنة عليهم.

الاستيطان والتوسّع كالنار التي لا تشبع، تأكل ذاتها إن لم تجدْ ما تأكله، لهذا نسمع الآن عن شهوة هذا الاستيطان للعودة إلى قطاع غزّة. أين ينتقل هذا التوسّع بعد السيطرة على الضفّة الغربية وإلى أين يتوجه؟ الجوار العربي كلّه مُهدد بالتوسّع التوراتي، اليوم وغداً من دون استثناء، وصولاً إلى الخليج؛ الهدف الغالي للتوسّع الصهيوني. في اللحظة الراهنة نقف في وجه أكثر تمثّلات الصهيونية وحشية وعنجهية واستعلاء، في وقت تسود فيه الرخاوة والضعف في المنطقة العربية، ومقادير لا يُستهان بها من الاستهبال والاستهانة بهذه التمثّلات، من الدار البيضاء إلى أبوظبي والرياض. أضعفت الأنظمة العربية الرسمية كلّ أيديولوجيات الممانعة: القومية واليسارية والإسلامية، خشيةً على مواقعها، وتسبب هذا الإضعاف الدائم في سيطرة ثقافة فردية تافهة وهشّة يسهل التلاعب بها من الخارج. ويأتي خطاب التطبيع واحداً من أوجه هذا التلاعب، والذي تديره من وراء الستار الأنظمة ذاتها لتكوين قاعدة شعبية لخياراتها الاستسلامية. تعتقد هذه الأنظمة، وببلاهة، أنّها تتشاطر على الآخرين عبر تجييش ذباب إلكتروني هدفه الحطّ من القضايا الكبرى، وفي مقدّمتها فلسطين، تحت لافتة المصلحة القُطْرِيّة لهذا البلد أو ذاك. ويتموضع التطبيع مع إسرائيل في قلب هذه المصلحة، وكأنّ هذه البلدان التي لا ينقصها مصادر قوّة لن تحافظ على ذاتها إلا من خلال التحاقها بالمشروع الصهيوني، وقبول قيادته الإقليمية.

في البلدان المُستهدفة تطبيعياً، رجل الدين ورجل “البزنس” اليهودي هو الذي يقود الآن مرحلة التوسّع الناعم، تمهيداً للتوسّع الخشن القادم. الأول اخْتَرَعَ الديانة الإبراهيمية التي تبنتها بعض الأنظمة ببلادة تتغطّى بشعارات التسامح والتعايش، والثاني انطلق في مشروعات وشراكات لا تُحصى في البلدان العربية. سيستمرّ هذا التوسّع الناعم في السنوات المقبلة ويخلق مؤيّدين أغبياءَ له، وطبقات طفيلية منتفعة منه مادياً وتجارياً. وعندما تَصْلُبُ القواعدُ الناعمةُ يكون وقت طويل قد فات، ومفاصل أساسية سقطت في مصيدة التوسّع.

المهزلة الكبرى أنّ لا أحد يستفيد من دروس التاريخ الحديث المفتوحة على مصراعيها برسم الاستفادة. مرّة أخرى، في بدايات الاستيطان اليهودي في فلسطين كانت التجمعات اليهودية الأوروبية ناعمة وزراعية، بل تتعاون مع أهل البلاد الأصليين. لم يَرَ “التسامح والتعايش” العثمانيين في تلك التجمّعات كما رآهما أهل فلسطين، أي خطراً مستقبلياً. صارت لتلك التجمّعات أحياء يهودية وكُنس، ثمّ أنظمة مالية خاصة وبنوك وصناعات، كانت تبني ذاتها بهدوء. لم يكن في الأفق أيّ مؤشرات لمستقبل سياسي أو سيطرة يمكن أن تؤول إليها تلك التجمّعات. كلّ ما كانت تقوم به هو العمل الناعم والدؤوب وتهيئة الأرض انتظاراً لتغيّر ما في الجيوستراتيجيا يوفّر اللحظة التي يتم فيها الانقلاب والتحوّل نحو الوجه الخشن من المشروع. النسخة الحديثة لذلك الفصل المرير نراها الآن في المشروعات الدينية والثقافية اليهودية والمشتركة، التي تتأسّس في الخليج، خاصّة في الإمارات والسعودية والمغرب، وكذا في المشروعات التجارية والخبراتية التي تُسمّى مُتبادلة، فيما هي ذات اتجاه واحد. أليس من المريب حقّاً أن تتشكّل هيئات وجمعيات للحفاظ على “التراث والتاريخ اليهوديين” وأماكنهما في الجزيرة العربية؟ بما فيها حصون خبير وبني قريظة، في الوقت الذي أزيلت فيه عن وجه الأرض الأماكن الإسلامية بدعوى شبهة التوسّل بها وتقديسها؟ هذه صرخة تحذير أكثر منها تسجيل لإدانة قبل أن يفوت الأوان.

مقالات ذات صلة