في غزّة دفنت “الإنسانية” ومعها كرامتنا نحن العرب

أسامة أبو ارشيد

حرير- ما يجري في قطاع غزّة من جريمة إبادة جماعية تمثِّل وصمة عار على جبين البشرية، وتهاوياً لصروح “مؤسّسات الشرعية الدولية”، وانكشافاً لزيف مزاعم حقوق الإنسان التي ما فتئ جلُّ الغرب يصمُّ آذان العالم بها، وانفضاحاً لادّعاءاته عن تحضره في مقابل عالم يسودُه التوحش والفوضى. لن أخوض في التاريخين، البعيد والقريب، وكذلك الحاضر، الذي يؤكد يقيناً أن “حضارة الإنسان الأوروبي الأبيض” كانت، ولا تزال، الأكثر توحّشاً ودموية، وجرائم الإبادة التي ارتكبها “الأوروبي الأبيض” في أفريقيا وآسيا، ومن ذلك الفضاء العربي، وأستراليا والأميركيتان، بل وحتى في أوروبا نفسها، شاهدة وموثّقة لا تقبل التشكيك فيها. وهي ليست في نسق الماضي، بل هي في صيرورة الحاضر كذلك. هذه حقيقةٌ لا يجادل فيها إلا متواطئ أو مُغَيَّبُ وعيٍ. لكن، إذا أمكن فهم، لا تسويغ، دواعي جُلِّ الغرب نزعه الإنسانية عن “الآخر” غير الأوروبي الأبيض، فكيف يمكننا فهم وتسويغ تواطؤ بعض الضحايا في جريمة نزع الإنسانية عن أنفسهم وعن شعوبهم؟ للأسف، هذا ما نراه رأي العين في قطاع غزّة.

من نافل القول إن الوضع في القطاع كارثي بمستويات ومعايير غير مسبوقة. يقترب العدوان الإسرائيلي من دخوله شهره الخامس، ولا تلوح في الأفق مؤشّرات على توقفه قريباً. لم يبق في القطاع إلا مدينة رفح على الحدود مع مصر، والتي لا تتجاوز مساحتها 55 كيلومتراً مربعاً، ويتكدّس فيها قرابة مليون ونصف المليون فلسطيني، جُلُّهُم الأعظم نازحون، من دون مأوى ولا خدمات، إنسانية وإغاثية وطبية. يناشد العالم إسرائيل أن لا تقتحم المدينة لما سيترتّب على ذلك من مذابح وكوارث، ولكن إسرائيل لا تلتفت له. حتى الولايات المتحدة، ربيبة الدولة العبرية، تحذّر من مخاطر اقتحام المدينة، لكن “الحليف الموثوق” يضرب بتصريحات رئيسها، الشريك الكامل في جريمة الإبادة، عرض الحائط. وَلِمَ تستجيب حكومة نتنياهو لتوسّلات جو بايدن ومناشداته، وهو في الوقت نفسه يقرّ مزيداً من شحنات الأسلحة إليها من دون شرط أو قيد، ويقدم لها الحصانة الديبلوماسية في مجلس الأمن من دون تردّد؟

لكن، مرّة أخرى، ماذا عنَّا نحن “أمَّة العرب” وكذلك الإسلام؟ أجفّت في عروقنا النخوة والشهامة والنجدة، بل وحتى الإنسانية؟ في بيان أصدره قبل أيام صندوق الأمم المتحدة للسكان أعرب فيه عن شعوره بالفزع إزاء تقارير بشأن تجريد ضباط إسرائيليين نساء وفتيات فلسطينيات في غزّة من ملابسهن وتعرّضهن للاغتصاب أو الإعدام. مرَّت هذه الصرخة وكأنها لا تعنينا، وكأنها لا تتعلق بشرفنا وعرضنا؟ ولا أعلم كيف ستتحرّك مشاعر من لم يحرّكه الغضب على ارتكاب الجريمة ذاتها بأيدي بعضنا ضد نسائهم وأطفالهم، كما في السودان وسورية؟

الحرب في غزّة لا تعرف رحمة أو شفقة وتُعَدّ مثالًا على الفشل الإنساني الذريع”، هكذا قال، قبل أيام، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة، مارتن غريفيث، في مقال منشور له. وأضاف “ما تكشفت فصوله في غزّة على مدى الأيام الـ137 الماضية لا مثيل له في حدّته وقسوته ونطاقه. فقد قُتل عشرات الآلاف من الناس أو أصيبوا بجروح أو دُفنوا تحت الركام. وسُوّيت أحياء بكاملها بالأرض. وهُجّر مئات الآلاف من الناس، الذين يعيشون الآن في ظل أشدّ الظروف بؤساً بفعل حلول فصل الشتاء عليهم. وبات نصف مليون إنسان على شفا المجاعة. وليس ثمّة قدرة على الوصول إلى أبسط الاحتياجات الأساسية: الغذاء والماء والرعاية الصحية والمراحيض. يتم تجريد شعب بأكمله من إنسانيته”. أما المدير العام لمنظمة الصحّة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، فوصف قطاع غزّة بأنه “أصبح منطقة موت”، وأن الوضع فيه “لاإنساني”، داعياً إلى “أن تسود الإنسانية”، ولكن لا حياة لمن تنادي، حتى بين العرب.

مثلاً، وردت تقارير قبل أسابيع عن وجود جسر بريًّ بين الإمارات، مروراً بالسعودية والأردن، إلى الدولة العبرية يوصل إليها البضائع والخضروات والفواكه التي تأثرت حركتها في البحر الأحمر بفعل هجمات الحوثيين في اليمن. نفت عمّان حينها تلك الأنباء، واستبشرْنا بذلك خيراً، إلى أن أثبت الإعلام الإسرائيلي نفسه حقيقة الفاجعة والعار. دع عنك هنا مسألة توريد الفواكه والخضار الأردنية إلى الأسواق الإسرائيلية بذريعة أنها تتم بعقود مع “القطاع الخاص” لا سيطرة للحكومة عليها! يجري ذلك كله وأهل غزّة، خصوصاً أطفاله، يتضوّرون جوعاً على مرأى ومسمع منَّا ومن العالم أجمع. حتى حشائش الأرض وأعلاف الحيوانات أصبحت عزيزة في القطاع المنكوب، والأدْهى ألّا تحرّكنا، نحن العرب، توسّلات الأطفال لسد رمقهم، وهم المحاطون بحوالي نصف مليار عربي، يمدّهم من ورائهم أكثر من مليار ونصف المليار مسلم! ومع ذلك، نجلس جميعاً منتظرين لعلَّ بايدن، صنو نتنياهو، ينجح في إقناع الأخير، وكذلك “الرئيس المكسيكي”، عبد الفتاح السيسي بفتح المعابر والسماح بدخول مزيد من المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة! أإلى هذا الحد من الهوان وصلنا؟

يوم الأربعاء الماضي قدّمت مصر مرافعة، وصفها الإعلام الرسمي، بـ”التاريخية”، أمام محكمة العدل الدولية، التي تنظر في جريمة الإبادة الإسرائيلية، ربما ردّاً على الاتهام الإسرائيلي المباشر لها، قبل أسابيع، أمام المحكمة نفسها، أن مصر هي المسؤولة عن حصار القطاع ونكبة سكانه. كان جوهر الطرح المصري: إلى متى سيظلّ شعب فلسطين يقتل وتغتصب حقوقه؟ وطالبت مصر بأن تكون إسرائيل موضع مُساءلة ومحاسبة على جرائمها واختراقها الأعراف والقوانين الدولية والإنسانية. كان من الحريِّ بنا أن نشكر مصر، كما شكرنا من قبل جنوب أفريقيا والبرازيل، لو أنها لم تكن طرفاً في حصار الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة. لكن الجميع يعرف الحقيقة المُرَّة، نظام السيسي جعل من كارثة غزّة طريقاً للتربح عبر ابتزاز الغزّيين وعائلاتهم بمبالغ فلكية إن هم أرادوا الخروج من القطاع طلباً لمأوى وأمان. والجميع يعلم أن أيّاً من تلك الأموال لا تذهب إلى خزينة الدولة، ولكن لجيوب السماسرة في أجهزة المخابرات والأمن والجيش. ونحن، لا زلنا ننتظر أن “يقنع بايدن السيسي بإدخال مزيد من المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة!

لا توجد كلمات تفي بما نحن بصدده من عارٍ إنسانيٍ وعارٍ عربيٍ وإسلامي. يمكن لنا أن نتحدّث عن تداعي الضمير الإنساني العالمي وانهياره، وقد شهدنا ذلك مرّات ومرّات في التاريخ القريب والحاضر، دع عنك ما سجّله التاريخ البعيد. لكن، أظن أننا ينبغي أن نبدأ أولاً بالاعتراف بالمهزلة والغثائية التي عليها نحن العرب والمسلمين، فرغم وجود نماذج مضيئة في عتمة ليلنا، إلا أن العتمة أحلكُ مما كنَّا نظن.

مقالات ذات صلة