التقدم بالهوية: الانتقال العظيم.. د.باسم الطويسي

لا يتردد كثيرون من وصف الصراعات المحتدمة في العالم في آخر ثلاثة عقود بأنها صراعات هوية بامتياز. وهذا ليس بالجديد؛ الجديد كيف نبني مفاهيم مختلفة للتقدم والتغير الاجتماعي والثقافي تقود الى تغيير اقتصادي انطلاقا من تغيير النظرة للهوية؛ أي كيف تتحول الهوية من فكرة مشغولة بالماضي وبإعادة تفسير الذكريات الجماعية الى قوة تتقدم بالجميع الى الأمام من خلال قوة الهدف المشترك؛ أي بيئة محفزة على تغيير العلاقات التقليدية ونسج علاقات جديدة في بيئة محفزة تغير مفاهيم العمل والإنتاج والنجاح.

في العقود الأخيرة، انشغلت الكثير من النظم السياسية والثقافية بفكرة الهوية المشتركة أو الهوية الجامعة، وهي محاولة لترقيع الهويات، ومع أن الذين انشغلوا بهذا الإطار طرحوا فكرة تجاوز الهويات الفرعية، إلا أنهم رسخوها عمليا، ونكتشف اليوم أنهم أبقوا مجتمعاتهم في أطر ما قبل الحداثة لأن الانشغال بالماضي والذكريات الجماعية بقي هو المهيمن؛ أي أن ما حدث لم يتجاوز الجمع من دون الانصهار والتلفيق وليس التوافق، ومن دون تجاوز المفهوم التقليدي للتنوع. وفي معظم تجارب هذا النمط من المجتمعات، كان التنوع قشرة سطحية تخفي خلفها بذور الانقسام وتضعف التطور الاجتماعي والثقافي الذي يفترض أن يقود الى الهدف المشترك وقوة التوافق التي من المفترض أيضا أن تتحول إلى قوة سياسية ورأسمال اجتماعي محفز على التغيير وإحداث الاختراقات الاقتصادية في الأسواق وفي الإنتاج وفي العلاقات بين الدولة والمجتمع وبين السوق والمجتمع وفي ازدهار الثقة العامة.

دراسات الهوية الجديدة تستلهم من التجارب الحديثة وتفيد من الوصفة التي تجعل الهوية تتجاوز الماضي والملامح الثقافية التقليدية للجماعات وإعادة تشكيلها على قوة الهدف الوطني الكبير القادر على جمع الناس والجماعات والنخب والطبقات والمؤسسات حوله، إنها هوية مركزية لا تعمل لشيء أكثر من التقدم والتجاوز، كما فعل جوليوس نيريري في تنزانيا ولي كوان يو في سنغافورة وكما فعلت النخب الجديدة في دولة صغيرة ومنهكة بالحروب والفتن مثل روندا.

الالتفاف حول هدف كبير أو فكرة كبرى، يعني إحداث تغير تاريخي في مزاج المجتمع وشعوره وإدراكه للعلاقات وإعادة تشكيل التوقعات العامة؛ في المحصلة تغير ثقافي تاريخي في النظرة الى الذات وإلى الآخرين وفي النظرة الى العمل والإنتاج وإلى الماضي والحاضر والمستقبل، وهذا الانتقال العظيم نتيجة لثلاثة عوامل كبيرة في مسار بناء الدولة الحديثة؛ الأول: بناء دور القانون في الحياة العامة؛ أي إعادة بناء العلاقات على صرامة القانون ونفاذه على الجميع. أن يتحول القانون الى أداة مطلوبة ومرغوبة لتحقيق الصالح الخاص والعام؛ أي بناء مجتمعات مؤسسة على وضوح قانوني، وبالتالي يتحقق نفاذ القانون وتتحقق قوة الردع العام التي تتحول مع الزمن الى ثقافة للمجتمع وللمؤسسات ويتحقق الامتثال العام، العامل الثاني: كفاءة المؤسسات المعنية بتقديم الخدمات العامة، ويشتمل ذلك على المزيد من الاختصاص والمسؤولية والمساءلة وبناء القدرات والتنظيم ببعديه المؤسسي القانوني والأخلاقي، إن بناء مؤسسات كفؤة وفعالة هو ما يمهد الى تطوير الأسواق وما يقود الى متتالية من النجاحات والابتكارات الاجتماعية والاقتصادية التي تعمل على تحسين نوعية الحياة. العامل الثالث: بروز قادة وطنيين قادرين على العبور في اللحظات التاريخية بمجتمعاتهم وتوفير الظروف الملائمة للانتقال العظيم من خلال قربهم من الناس ومعرفتهم ومن خلال اتصالهم الوثيق بالعالم والمعرفة والقدرة على تقديم الابتكارات والحلول السياسية للمشاكل، هذا لا يعني العودة الى دور الأفراد في التاريخ ولا تجاوز الأدوار التقليدية للأدوات الديمقراطية.

إن الخبرات الجديدة تفيد بأن الهوية قد تتجسد بهدف كبير يجمع الناس حوله، وقد تتجسد بفكرة كبرى ذات مضمون عظيم وقادرة على خلق توافق واختراق، فقد تعبت المجتمعات من إعادة تفسير الماضي ومن تقسيم الأوطان على حدود الذكريات الجماعية المتعبة.

مقالات ذات صلة