الحروب الإسرائيلية ضد السياسة

سمير الزبن

حرير- الحرب صراع مسلح للوصول إلى حل سياسي لمشكلات سياسية لم يتم حلها بالأدوات السياسية، لذلك يستخدم السلاح من أجل أن يصل المنتصر إلى نتيجة سياسية يفرضها على المهزوم. وبالتالي، أي حرب تستهدف الوصول إلى تسوية سياسية. هذا ليس حال الحروب الإسرائيلية، فهي حروبٌ مضادّة للتسوية، وتخوضها من أجل فرض وقائع تجعل النتائج السابقة للحرب ملغاة وغير صالحة للتسوية بعدها. ولا تختلف الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزّة عن حروب إسرائيل الرئيسية السابقة، بمحاولة فرض واقعٍ جديدٍ يناسب السلوك التاريخي لإسرائيل بحروبها ضد أي تسويةٍ قابلة للتطبيق، لأنها لا تناسبها.

لم تكتفِ إسرائيل في حرب العام 1948 التي أسست دولتها بانتصارها، وهذا ما تهدف إليه كل حرب، لاستكمال مشروعها، كان لا بد من طرد الفلسطينيين من ديارهم لتأسيس “الدولة اليهودية” في فلسطين، لأن كثافة فلسطينية عربية في فلسطين تفوق عددياً اليهود المنتصرين في الحرب تمنع تحقّقها، لا يكفي النصر وحده لتأسس هذه الدولة التي سيكون أغلبها من غير اليهود. وبذلك، لا يمكن اعتبارها دولة يهودية، كما تعرّف إسرائيل نفسها. وإذا كانت كل حربٍ تنتج مشكلة لاجئين بسبب المخاطر التي تشكلها الحرب، والتي تدفع المدنيين إلى الفرار من أماكنهم، إلا أن التهجير الذي جرى في فلسطين لم يكن من عوارض الصدام المسلح، بل كان عملية تطهير عرقي استمرّت في أثناء الحرب وبعدها. كما أن اللاجئين، باعتبارهم من عوارض الحرب، لم يُسمح لهم، بعد انتهاء الحرب، بالعودة إلى ديارهم، كما نصّ قرار الأمم المتحدة 194 القاضي بعودتهم إلى ديارهم. والقصة معروفة برفض إسرائيل إعادة أي لاجئ فلسطيني، حتى أن فلسطينيين موجودين في بلادهم اعتبرتهم إسرائيل غائبين، وهؤلاء الذين بقوا في أرضهم مُنعوا من السكن في بيوتهم التي يملكونها. حالة من التناقض المؤلم والساخر أن يكون الفلسطيني موجوداً جسدياً في وطنه، وغائباً في منطق القانون الإسرائيلي الذي لا يريد أن يراه على أرض فلسطين التي احتلها، وألغى وجودَهم ووجودها.

بقي الصراع على الأراضي التي احتلّتها إسرائيل في 1948 حتى وقوع حرب 1967، التي احتلّت إسرائيل خلالها ما تبقّى من الأراضي الفلسطينية، كما احتلت سيناء من مصر ومرتفعات الجولان من سورية. فرضت نتائج الحرب وقائع جديدة، وسرعان ما ضمّت إسرائيل القدس الشرقية بتوسيع حدود المدينة، وبدأت مشروعها الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة. جاءت نتائج الحرب بالنسبة لإسرائيل بوصفها تجاوزاً للواقع الذي كان قائماً قبلها، ونقلت المطالب من الأراضي التي احتلت في 1948 إلى الأراضي التي احتلّت في 1967، والتي باتت أساس كل تسوية جاءت بعد ذلك، من اتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وصولاً إلى اتفاقات وادي عربة مع الأردن. وبقيت المشكلة مع الأراضي الفلسطينية المحتلة التي اعتبرتها إسرائيل أراضيها، وأخذت تقضمها عبر نشر عشرات المستوطنات في الأراضي الفلسطينية. أما مع الفلسطينيين، فقد وقّعت إسرائيل اتفاق أوسلو الانتقالي، كان جوهره الخلاص من التجمّعات السكّانية الفلسطينية ومنح السلطات عليها لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني التي تم الاتفاق على إنشائها، وهي ما عرف بمناطق (أ) والتي لم تتجاوز 8% من الضفة الغربية، والمناطق (ب) و(ج) التي بقيت تحت السيطرة الإسرائيلية. ولم تستطع إسرائيل الوصول إلى حلّ نهائي مع الفلسطينيين، وبقي الوضع عالقاً في الحلّ الانتقالي الذي أخذ يتآكل بعد ما يقارب ربع قرن من موعده المحدد.

لقد تم تجاوز الواقع القائم قبل حرب العام 1967 بفرض وقائع جديدة، باتت الأساس المكون للتسويات السياسية التي جاءت بناء على وقائعها. والمسار الوحيد الذي استعصى على هذه النتائج هو المسار الفلسطيني، فإسرائيل تتعامل مع هذه الأراضي بوصفها أرض إسرائيل، وما يزعجها وجود الفلسطينيين عليها. ماتت عملية التسوية السياسية على المسار الفلسطيني. وأصبح من الواضح أن الإسرائيليين غير قادرين على الوصول إلى هذه التسوية، وهو ما دفعهم مع الحكومات اليمينية التي حكمت إسرائيل في السنوات المنصرمة، إلى توقيع اتفاقات أبراهام للتطبيع مع دول عربية، متجاوزين أي تسويةٍ مع الفلسطينيين.

مع حربها الجديدة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، تجد إسرائيل الفرصة مواتية لإيجاد وقائع جديدة، تتجاوز الواقع الذي فرضته حرب 1967 التي قامت كل محاولات التسوية في المنطقة على أساس معطياتها في العقود المنصرمة. وعندما يعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو “حرب الاستقلال الثانية” على الفلسطينيين، هو يعني كما فسّرها وزراءه، نكبة ثانية، يجب إيقاعها بالفلسطينيين. والنكبة الثانية تعني فرض وقائع جديدة خلال هذه الحرب، تجعل أي تسويةٍ مع الفلسطينيين مسألة تجاوزها الزمن، بإيجاد مشكلة فلسطينية كبيرة تجعل العالم ينشغل فيها سنوات طويلة، وأي مطالبة بحقوقٍ فلسطينيةٍ لن تكون مسموعة في إسرائيل التي أصابها جنون التطرّف، وهو ما سيمنع أي تسويةٍ خلال وقت طويل بعد هذه الحرب. والكلام الذي تقوله الإدارة الأميركية عن رفضها احتلالا إسرائيليا جديدا لقطاع عزّة، في الوقت الذي توافق فيه على ما تقوله إسرائيل بأن القطاع بعد الحرب سيكون من دون حركة حماس، فكيف يمكن القضاء على “حماس” من دون تجريف السكّان في قطاع غزّة؟! وهو التجريف الذي بدأ من شمال القطاع مع عمليه التدمير الممنهج لمدينة غزّة من خلال قصفٍ عنيفٍ لا مبرّر عسكرياً له سوى هدم مزيد من المباني وجعلها غير صالحة للسكن.

منحت الولايات المتحدة إسرائيل الإذن بإيقاع نكبة جديدة بالفلسطينيتين، وحكومة اليمين الغاضبة والمجروحة التي تشعر بالعار من هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، جاهزة لإيقاع هذه النكبة بالفلسطينيين، وما الغموض والتصريحات الإسرائيلية المتناقضة عن قطاع غزّة ما بعد الحرب سوى تمويه على الجريمة التي تسعى إلى ارتكابها بحقّ الفلسطينيين.

مقالات ذات صلة