تردّي الخطاب الصهيوني ورداءة الرسالة الإعلامية
أحمد الجندي
حرير- خلال ثلاثين عاما تابعتُ فيها الشأن الإسرائيلي وتصريحات المسؤولين في دولة الاحتلال، لم يحدُث أن كان الخطاب على هذا النحو من التردّي، ولا بهذا القدر من السطحية. وإذا كانت مخاطبة المحتلّ الداخل والخارج اشتهرت بالكذب 75 عاما؛ فإن معركة طوفان الأقصى قد كشفت عن مستوى خطابٍ متدنٍّ، ومثير للسخرية أحيانا، ومتعالٍ بشكل غير مسبوق عند جميع مسؤولي الاحتلال، وعند السياسيين في المعارضة، بل ولدى الإعلاميين أيضا، من دون أي استثناء.
حين ننظر إلى الخطاب الإسرائيلي والرسائل المطلوب إيصالها إلى الداخل والخارج، وما يستدعيه ذلك من توظيف التعبيرات المناسبة، واختيار الصورة، والأسلوب، وصولا إلى الأشخاص الذين يتولّون تقديم هذا الخطاب وهيئتهم وملامحهم وتفاهمهم فيما بينهم، إضافة إلى مدى القدرة على الإقناع بمصداقيته، فإننا سنصل إلى نتيجة مفادها أن كل ما يحدُث دليل على حالة فشل ممتدّة، ولا أظنها ستتوقف، بدأت مع تعرية المقاومة كذبة هيبة الاحتلال، وتدميرها ما ساد في المنطقة العربية عبر عقود طويلة من حديثٍ عن قوة ردع الجيش الصهيوني في 7 أكتوبر. ويمكن هنا رصد محدّدين نقيم من خلالهما نجاح هذا الخطاب أو فشله؛ أولهما الفئة المستهدفة من الخطاب والأدوات المستخدمة، والآخر يتعلق بأدلة النجاح أو الفشل الذي تحقّق.
في ما يتعلق بالمحدّد الأول، استهدف الخطاب الصهيوني الداخل والخارج؛ ففي الداخل؛ خاطب المستوطنين من أجل استعادة الثقة بالقيادتين، السياسية والعسكرية، أولا، ثم طمأنة المجتمع ثانيا. وفي الحالتين، لم يتمكّن الاحتلال من إحراز نجاح كبير؛ فاستعادة الثقة بالقيادة السياسية أصبحت أمرا مستبعدا في ظل انتقادات تتعاظم ضد رئيس الوزراء، وضد الوزيرين بن غفير وسموتريتش، نتيجة ما صدر عن الثلاثة من أفعال وأقوال قبل الحرب وفي أثنائها، وبسبب طريقة إدارتهم التي أصبحت تحظى بشبه إجماع على فشلها، فقد عكست استطلاعات رأي، ترصد وضع الأحزاب فيما لو أجريت انتخابات الآن، تراجعا كبيرا لعدد المقاعد التي يُمكن أن تحصل عليها أحزاب الليكود وعوتسماه يهوديت والصهيونية الدينية، وهي ثلاثة أحزاب رئيسة في الائتلاف الحاكم.
ويأتي مثل هذا الاستطلاع على خلفية سوء الأداء الإعلامي وتصريحات كبار مسؤولي الاحتلال الذين تعرّضوا للسخرية في الإعلام العبري نفسه. وهناك أمثلة كثيرة تؤكّد ذلك؛ منها مثلا إجابة نتنياهو “حماس من يجب أن تستقيل” ردّا على سؤال صحافي له إنْ كان ينبغي له أن يقدّم استقالته، ومنها ردّه أيضا “هل طالب أحد جورج بوش بتحمّل المسؤولية في 11 سبتمبر”، بعد سؤال إن كان ينوي تحمّل مسؤولية الفشل عن أحداث 7 أكتوبر؟ ولم يقتصر الأمر على نتنياهو وحده، فقد شارك رئيس الدولة بنفسه في مشهد يعبّر عن ضحالة فكرٍ، حين حمل نسخة من كتاب هتلر “كفاحي”، المترجم إلى العربية، في مؤتمر صحافي، ليعلن للعالم أن جنوده أرسلوا إليه هذا الكتاب بعد أن عثروا عليه في إحدى مدارس غزّة، وأن أهل غزّة يعلمون أطفالهم أيديولوجيا النازية، متجاهلا، أو جاهلا أن امتلاك كتاب مهما كان موضوعه ليس جريمة، لأن قراءة الكتب لا تعني التسليم بمحتواها، ومتجاهلا كذلك أن الكتاب، إذا وُجد في غزّة أصلا، مترجم لأكثر من عشرين لغة، وأكثر أجزائه ترجمها إلى العبرية الكاتب الإسرائيلي دان يارون.
وكان الحال على مستوى الوزراء أكثر بؤسا؛ فوجدنا وزيرا للتراث (لا يملك الاحتلال تراثا أصلا) يطالب بضرب غزّة بالسلاح النووي، وثانيا يفتخر بأن القصف الإسرائيلي الذي أدّى إلى نزوح آلاف الفلسطينيين هو إعادة لمشهد النكبة القديم. وثالثا، في أشدّ اللحظات سوادا على المحتل، يؤكّد أهمية التعديلات القضائية، التي تسبّبت في تدمير المجتمع والانقسام وانشغال الجيش. وبالتالي، لم تعد مسألة استعادة الثقة بالقيادة السياسية الحالية، بل وربما بعموم السياسيين هناك، أمرا سهلا.
أما عن استعادة الثقة في القيادة العسكرية، فعلى الرغم من تحسّنها، فإنها لم تصل بعد إلى المستوى نفسه قبل اندلاع الأحداث، وما زالت أحاديث كثيرة تدور هناك عن ضآلة الإنجاز العسكري في ظلّ ما أعلن من أهداف كبرى أصبحت مستبعدة لدى كثيرين، إضافة إلى طول فترة الحرب، مع ميل إلى تحميل ذلك للقيادة السياسية، لانعدام رؤيتها، وليس لقيادة الجيش. وإلى جانب ذلك، ترتبط طمأنة الرأي العام الداخلي في أحد مسبّباتها بتوافق مسؤولي الاحتلال؛ وهو أمر لم يعد ممكنا في ظل تعمّق الخلاف بين القادة السياسيين، وآخر شواهده، حين ألمح نتنياهو إلى عدم رغبة وزير الحرب غالانت عقد مؤتمر صحافي مشترك معه، وقال “لقد اختار ما اختار” ردّا على سؤال عن سبب غياب وزير الحرب عن المؤتمر، كما ترتبط، في الوقت نفسه، بملامح هؤلاء المسؤولين الذين كثيرا ما تظهر عليهم علامات عدم الارتياح أو الحزن نتيجة ما يلحق بجنود الاحتلال من خسائر في المواجهات في غزّة.
وبالنسبة للخطاب الموجّه إلى الخارج، فكان تركيز الاحتلال على توجيه مقولاته وادّعاءاته للقيادات السياسية الغربية أكثر من استهدافه الشعوب، فقد كان الكيان في حاجةٍ لدعمٍ مادّي ومعنوي على المستوى السياسي لطمأنة الداخل، ولإشعاره بأن دول العالم تقف إلى جانبه؛ ومن ثم لم يُعط المستوى الشعبي الاهتمام الكافي، ولم تطوّر دولة الاحتلال خطابها، وكان ذلك أحد أسباب خسارتها الرأي العام العالمي. يضاف إلى ذلك أن ما قُدّم لإقناع العالم بالرواية الصهيونية اتسم بفرض لتلك الرواية، وباتهام من يرفضها بمعاداة السامية، وبالإصرار على أن تكون نقطة الانطلاق في أي حوار إدانة ما فعلته “حماس”، والإقرار بأنه جريمة حرب، مع استخدام أوصاف عنصرية تنعت الفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية”، كما قال وزير الحرب، أو تعتبر أهل غزّة كلهم يستحقون القتل لأنه “ليس في غزّة أبرياء”، مثل ما كتب أفيغدور ليبرمان. وهكذا يُجرّد الفلسطينيون عموما، وليس في غزّة وحدها، من بشريتهم وإنسانيّتهم، حتى يتقبل العالم ما تقوم به دولة الاحتلال من تطهير عرقي إزاء شعب كامل.
والأكثر من ذلك أنه كان مفروضا على الجميع التسليم بلا مناقشة بكل التفاصيل التي يرويها الاحتلال عما فعلته “حماس” في اليوم الأول من “طوفان الأقصى” من اغتصاب للنساء وقطع رؤوس الأطفال، ومن دون أن يكون هناك أيّ إثباتٍ لها. وأحسب أن هذا النهج الذي يفرض الاحتلال فيه على الآخرين الموافقة على كل ما يدّعيه، ويصادر حقهم في التفكير والتدقيق والعودة إلى الأدلة والحقائق وسماع رواية الطرف الآخر، كان مستفزّا لغالبية الشعوب، خصوصا أن الخطاب المقابل على الجانب الفلسطيني كان أكثر وضوحا ومصداقية، ومدعّما بصور حية لمجازر الاحتلال وجرائمه، وكان أكثر هدوءا، وداعيا إلى التفكير، وتاركا الحرية لكل متابع ليقرّر أين الحقيقة… وأمام هذه المتناقضات، كان الأقرب إلى المنطق أن يفشل خطاب الاحتلال.
ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحد، فأدوات الخطاب الإسرائيلي استجلبت استهجانا عالميا بتبرير قصفها المستشفيات والمدارس التي تؤوي الجرحى والنازحين وقتل مئات الأبرياء بادّعاءات كاذبة، كقولها إن بعض القصف كان من صواريخ غير دقيقة أطلقتها المقاومة؛ كحالة المستشفى المعمداني، أو لوجود أنفاقٍ تحت بعضها تستخدمها المقاومة مقرّات للقيادة كحالة مستشفى الشفاء، ومستشهدة على ذلك أحيانا بفيديوهات لأنفاقٍ في مدن أوروبية كانت تُستخدم في الحرب العالمية الثانية، أو بذلك العرض الفاشل الذي قام به المتحدّث باسم الجيش الصهيوني بنفسه في قبو زعم إن المقاومة كانت تحتجز فيه بعض الأسرى، مستدلا بتقويمٍ يشتمل على الأسماء العربية لأيام الأسبوع، ودرّاجة بخارية، وستارة معلقة على جدار، وكان ذلك أكثر ما أثار سخرية النشطاء على مستوى العالم أمام هذه المسرحية الهزلية التي افترضت أن شعوب العالم قطيعٌ سطحيٌّ ساذج، وأن هذه الشعوب لا تمتلك عقلا نقديا يمكّنها من التمييز بين الحقيقة والوهم الذي نفذه جيش الاحتلال على يد قيادات عليا بهذا المستوى.
إذا نظرنا إلى ما حقّقه العدو الصهيوني على مستوى موقف شعوب العالم، نجد أن التظاهرات الضخمة في أغلب العواصم الأوروبية الداعمة للفلسطينيين، والرافضة جرائم الحرب الصهيونية، تؤكّد خسارة الاحتلال الرأي العام العالمي، رغم امتلاكه آلة إعلامية جبّارة، مدعومة بكبريات وسائل الإعلام العالمية المنحازة. وهذا يدلّ على فشل الخطاب الصهيوني، ويظهر كيف أدّت عملية طوفان الأقصى إلى صدمة شلت القدرة على التفكير لدى الجميع هناك؛ وكشفت عن سياسيين غير مؤهلين، في الحكومة والمعارضة، وأن المجتمع الإسرائيلي لم يعد قادرا على تقديم أفضل من هؤلاء، وأن هذا الكيان ربما وصل إلى شيخوخةٍ تقوده فيها قيادات تتمتع بفقر فكري، وأداء باهت، وخطاب سطحي ساذج، لا يخلو من “الهيافة”.
ولم يكن ما سبق جديدا على الخطاب العنصري المتغطرس للاحتلال منذ نشأته، لكنه كان يحتاج حدثا مزلزلا بحجم ما جرى ليظهر على حقيقته، عاريا، عنصريا، متكبّرا، ضعيفا، وغير مقنع، فخسر بذلك تأييد غالبية الشعوب… وهذا من حسنات طوفان الأقصى.