الحرب على غزّة والعقول المُسْتَعْمَرَة
أحمد طه
حرير- توقّفت الحرب الإسرائيليّة الهمجيّة على قطاع غزّة في هدنة إنسانية مؤقتة، صباح الجمعة الماضي، بعد نحو 50 يوماً من التدمير والقتل المُمَنهَج، بالعدوان غير المسبوق على القطاع، وأسفر عن مقتل أكثر من 14 ألفا من الفلسطينييّن.
بعد التوغّل الإسرائيلي بريّاً في غزّة، وتحت ضغط الخسائر البشريّة والماديّة التي تتكبّدها إسرائيل، ومع تزايد الضغوط الدوليّة لوقف الإجرام الإسرائيلي، وبعد طول مراوغة ومماطلة عبر مفاوضات بوساطة قطرية مصرية أميركيّة، استجابت إسرائيل وقبلت بشروط المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وبهُدنة إنسانيّة مؤقّتة اربعة أيام (مدّدت يومين ثم يوما) يتمّ بموجبها الإفراج عن رهائن النساء وفتية وأطفال مُحتجَزين في غزّة، مقابل إطلاق سراح 150 أسيرا وموقوفا فلسطينيّاً من سجون إسرائيل، بالإضافة إلى السماح بدخول المساعدت الإنسانيّة إلى القطاع المُحاصَر، ووافقت الحكومة الإسرائيليّة على الاتفاق، وعارضها ثلاثة وزراء متطرّفين ينتمون إلى حزب الصهيونيّة الدينيّة، بينما أكّدت “حماس” في بيان لها أن المفاوضات كانت بجهود قطريّة ومصريّة، وكانت صعبة ومُعقَّدة.
ظهرت في أثناء الحرب أصوات في الفضاء الإعلامي، محسوبة على التنويرييّن إيّاهم، حمّلت المقاومة مسؤوليّة ما حاق بالقطاع من تهديم وتدمير، على خلفيّة عمليّة طوفان الأقصى التي منحت إسرائيل الذريعة للردّ بعمليّة “السيوف الحديديّة”، واتهمت تلك الأصوات المقاومة بالرعونة وغياب الأفق، وبأن عناصرها سيلوذون بـ”الأنفاق”، بينما يدفع الأهالي الثمن، ويصيرون هدفاً للنيران الإسرائيليّة.
ليست تلك الأصوات جديدة، وفي كلّ مواجهة مع العدو الإسرائيلي لا يفعل أصحابها شيئاً سوى تصفية حسابات أيديولوجيّة مع “حماس” لا أكثر، فالسؤال الذي يفرض نفسه: منذ متى كانت إسرائيل بحاجة إلى ذريعة للعدوان؟ الجواب من الماضي القريب، في صيف 2014، عندما شنّت الآلة الحربيّة الإسرائيليّة حرباً عدوانيّة على غزّة استمرّت نحو شهريْن، أطلقت عليها إسرائيل “الجرف الصامد”، أدّت إلى مقتل 2322 من الفلسطينييّن. لم تأت تلك الحرب العدوانيّة على خلفيّة صواريخ حماس “العبثيّة”، على حدّ وصف بعضهم، وإنّما على خلفيّة مقتل ثلاثة مُستوطنين في الخليل، بعد أيّام من اختطافهم. وبالرغم من الحملة الأمنيّة الإسرائيليّة العاتية في الضفّة الغربيّة، فشلت إسرائيل في تقديم دليل واحد يُدين حماس، أو أيّ تنظيم فلسطيني آخر في تلك الحادثة، فضلاً عن أنها وقعت في الضفّة الغربيّة لا في غزّة، فالوظيفة الأساسيّة للآلة الحربيّة الإسرائيليّة منذ نشأتها هي القتل والتدمير.
ثمّة نوعيّة أخرى من “التنويريّين” الذين يؤيّدون الحقّ في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، لكنّهم لدوافع “تنويريّة” يتحفظّون بكلّ قوّة على الخلفيّة الفكريّة لحركة حماس، ومرجعيّتها الإسلاميّة، فتراهم في كلّ مناسبة ينبرون لاستنكار المنهج “الأصولي” لحماس ورفضه بالمطلق. وتدل تلك النبرة الاستنكاريّة “التنويريّة” على جهل عميق ومركّب في المقام الأوّل، فالإسلام جزء أصيل لا يتجزّأ من التكوين الثقافي، والفكري، والحضاري، والتاريخي للمنطقة، والتُربة الحضاريّة للمنطقة ذات جذور إسلاميّة، وأي تصوّر يتجاهل تلك النقطة يظلّ مجرّد ثرثرة “تنويريّة”. وقد كتب مُفكِّرٌ بحجم الراحل أنور عبد الملك وقامته: “الإسلام في أوطاننا معين عظيم، ومنبع أصيل، وإطار حضاري لتعبئة الجماهير الشعبيّة في معركة التحرّر والسيادة … الإسلام جزء من “الإيجابيّة التاريخيّة”: من هنا تكوّنت طلائع العالم العربي، في إطار الفِكر السياسي الإسلامي، ولم تستشعر هذه الطلائع بوجهٍ عام ضرورة التحوّل ضدّ هذا الفِكر، إذ لم يتحوّل الإسلام إلى مدرسة كادر للنظام الإقطاعي أو الأنظمة الرأسماليّة في العالم العربي، وإنّما ظلّ درعاً واقياً ضدّ الغزو الأجنبي، أي أنه ظلّ جزءاً لا يتجزّأ من “الإيجابيّة التاريخيّة” في عالمنا العربي ضدّ حملات الغزو”.. اللافت هنا أن أنور عبد الملك، رحمه الله، لم يكن إسلاميّاً في أي مرحلة من حياته. كان يساريّاً، وهو قبطيّ قبلا، لكنه كان رجلاً عاقلاً وطنيّاً، يُحسِن قراءة الظواهر التاريخيّة، ويجيد تحليلها بدرجة من العمق والموضوعيّة، من دون نزعات استشراقيّة.
مهما اتسعت الاختلافات، أو حتى التناقضات، مع “حماس” ، تظلّ تناقضات ثانويّة ذات طبيعة فكريّة / سياسيّة، أمّا التناقضات مع إسرائيل فكانت وستظلّ رئيسيّة جذريّة، ذات طبيعة حضاريّة، واستراتيجيّة، وتاريخيّة، وأخلاقيّة.
كانت حركة حماس وستظلّ في تصنيفها ضمن الحركات ذات المرجعيّة الإسلاميّة، التي انطلقت من أسس ومفاهيم إسلاميّة، ولن تتحوّل يوماً إلى حركة ليبراليّة أو يساريّة مثلاً، وليس المطلوب منها أن تفعل. ووفقاً لهذا، فإنّ غلاة العلمانييّن من التنويرييّن إيّاهم، من ذوي النزعة الاستشراقيّة، الذين يُطالبون الإسلامييّن بما يتجاوز قناعاتهم وتكويناتهم الفكريّة، فإنهم يُكلّفون الأشياء ضدّ طباعها، ويطلبون في الماء جذوة نار، ويدفعون الأجنحة الصقوريّة المُتشدّدة داخل “حماس” وغيرها إلى التصدّر فيها.
أمّا الأدهى فقد جاء في خطاب التسفيه والتبخيس، الذي صدر من بعضهم تجاه نتائج الحرب على الجانب الفلسطيني، عندما أرادوا تقييم حقّ مقاومة الاحتلال بالمعايير التجاريّة البحتة، على طريقة فواتير البيع والشراء، فرأوا أن الإفراج عن عدد من الأسرى ثمن ضئيل، إذا ما قُورِنَ بالتكاليف الكبيرة التي دفعها المدنيون، وبحجم الدمار في غزّة. والردّ على هؤلاء كتبه جون بولتون، وهو المعروف بأنه أحد غلاة المحافظين الجدد، ومستشار الأمن القومي الأميركي السابق في إدارة ترامب، بمقال نشرته صحيفة تليغراف البريطانيّة يوم الجمعة الماضي، عنوانه “حماس حقّقت انتصاراً كبيراً على إسرائيل”. ذكر في مقاله أن لصفقة التبادل تكاليف ومكاسب، لكن مقاتلي “حماس” الذين وصفهم بالإرهابيين جنوا أغلب المكاسب. ويرى بولتون أنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الصفقة ستُشكّل سابقة سلبيّة بشكل قاطع لإسرائيل، لكنها تُلقي بظلال الشكّ على قدرتها على تحقيق هدفها المشروع، بالقضاء على التهديد الإرهابي الذي تمثّله “حماس”، حسب تعبيره… إذا كان هذا الاعتراف بانتصار حماس، قد صدر من رجل صهيوني متطرّف مثل بولتون، فلماذا يُنكره “التنويريّون” الذين ما فتئوا يُشكّكون في دوافع المقاومة، ويُسفّهون كلّ عمل مُقاوِم لغرض في نفوسهم؟
للمُفكِّر الألماني الراحل مراد هوفمان كتاب بعنوان “خواء الذات والأدمغة المُسْتَعْمَرَة”. ولكن ما شهده الفضاء الإعلامي أخيرا من انحطاط سياسي، وفكري، ووطني، وأخلاقي لبعض “التنويريين” من بني جلدتنا، الذين هبطت بهم كراهيتهم حركة حماس إلى مرحلة تبرير الجرائم الإسرائيليّة، والانتقام النفسي من “حماس”، وإبداء الشماتة في أعداد الضحايا الفلسطينيين، ويدفعنا هذا كله إلى تعديل العنوان ليصير “خواء الذّات والأدمغة المُتَصَهْيِنة”.