
فضيلة الاعتراف بالهزيمة
سامح المحاريق
حرير- سيطرت على الأنظمة العربية غريزة عنيدة ترفض الهزيمة، ولكن ذلك لم يترافق بالتطلع إلى تجاوز أسباب الهزيمة والعودة من جديد، بقدر ما كانت تعبيرا عن رفض الإقرار بفشل مشروعها، الذي يعني ضرورة إنهائه وإفساح الطريق لمشروع بديل، وأمعنت هذه الأنظمة في الاستهانة بالشعوب التي دفعت ثمن الهزيمة، لتقنعها أحيانا بأن ما حدث كله،ما هو إلا محطة تعثر أو انتكاس، وأن معالجة بعض الأمور هنا أو هناك سيؤدي إلى استئناف المسيرة (المظفرة) للنظام. وإلى اليوم ما زالت تتعالى الأصوات التي تحذر من الاعتراف بالهزيمة، وتتجاهل أن هزيمة نظام ومشروعه لا تعني مطلقا أن الهزيمة ستلحق بالشعب ووجوده، في حالة من الإصرار على التماهي الكامل بين النظام والشعب، وهو ما لا يتسق مع الواقع الملموس، الذي يؤكد أن هذه الأنظمة عملت على بناء وقائع تفتيت طبقية أو طائفية.
في مراسم مهيبة كان إمبراطور اليابان يتقدم ليوقع اتفاقية الاستسلام بعد الحرب العالمية الثانية، وتزامن ذلك مع انتحار مجموعة من القادة العسكريين اليابانيين بطعن أنفسهم بالسيف في الطقوس التقليدية لـ»الهارا كيري» اللائقة بالمقاتلين العسكريين بعد الهزيمة، وعلى الطرف الآخر من العالم، كان القائد الألماني أدولف هتلر يطلق النار على رأسه مع تقدم القوات السوفييتية إلى برلين، وكم تبدو هذه الحالة متعالية على الوضع الذي ظهر به الرئيس العراقي صدام حسين مختبئا، أو الرئيس الليبي معمر القذافي قبل مقتله على يد إحدى الميليشيات التي كان يزرع بذرة وجودها في بلده، وكانت النتيجة هي سقوط اللا دولة التي عملا على تأسيسها لمصلحة نظام أناني يعتبر الدولة تابعة لطموحه ومشروعه، لا الرافعة والمبرر الأصلي والأساسي لوجوده، دولة تصبح مع الوقت تجسيدا للنظام، وتلغي فكرة أن يكون النظام تمثيلا لها.
يوجد فرق بين الهزيمة وإعلان الاستسلام، فلا أحد طالب الأنظمة العربية بالاستسلام في الأيام الصعبة التي أتبعت الخامس من يونيو، على العكس من ذلك، خرجت الجماهير إلى الشوارع لتعلن بأنها ستقاتل، ولكن التحايل على الأمر الواقع، ورفض فكرة الهزيمة وصل إلى نقطة هذيانية مع النظام السوري، الذي أتى رفضه مبررا أن اسرائيل فشلت في تحقيق هدفها المتمثل في إسقاط النظام، مع أن ذلك لم يكن ليحدث من غير منظومة القمع الداخلي المتفشية، والدعم السوفييتي الذي تلقته دمشق، وهي عوامل ليست لها أية علاقة بالأسباب الأصلية للهزيمة والمتعلقة بتركيبة النظام وأدائه خلال السنوات التي سبقت الهزيمة.
في المقابل، لم تكن المراجعات المصرية كافية، وعملت على استيعاب أسباب الانتكاس المختلفة جذريا عن الهزيمة، ولم تتمدد هذه المراجعات لتقف عند أسباب ارتبطت أساسا بالرؤية السياسية القائمة لدى رأس النظام، الذي خرج منتشيا بعد أزمة السويس 1956 ليقنع المصريين بأنه حقق انتصارا يقوم على أسباب ذاتية تتعلق بالنظام نفسه، وليس استجابة لواقع موضوعي رأت خلاله موسكو وواشنطن ضرورة كتابة الفصل الأخير للاستعمار التقليدي، على ضفاف قناة السويس.
لم يعترف جمال عبد الناصر بالمسؤولية عن الفشل المؤسسي الذي أدى إلى الهزيمة، واعتبرها نتاجا للمؤامرة، في حالة تعكس شيئا من السذاجة السياسية، وكأنه لم يدرك منذ اللحظة الأولى أن بلاده تعيش في صراع متواصل، وأن القوى الاستعمارية القديمة والجديدة لن تتوقف عن ممارسة الضغوط على نظامه، وبدلا من أن يفتح الباب لجميع القوى لتثري النظام، وتعمل على تحقيق المنعة اللازمة لاستمراره ووجوده، على الرغم من التحديات والتهديدات الكبيرة التي تحيط به، أصر على ترك الأمر لمجموعة من أصدقائه المقربين، وفي مقدمتهم عبد الحكيم عامر، الذي أثبت عدم كفاءته في العديد من المحطات قبل أن يصل إلى النتيجة الكارثية في الخامس من يونيو. بقي الوضع أفضل نسبيا من سوريا، فعامر يتنحى من المشهد منتحرا أو منحورا، وتتاح الفرصة لمجموعة من القيادات من أصحاب الكفاءة، أما ما حدث في سوريا، فهو الوصول بوزير الدفاع والمسؤول المباشر عن الهزيمة إلى موقع رئاسة الجمهورية، في انقلاب لا يختلف مطلقا عن الانقلابات الكثيرة السابقة التي دفعت بالنظام السوري إلى حالة من الهشاشة تبدت في هزيمته السريعة وسلوكه الانسحابي أثناء حرب يونيو، مع أن النظام الذي كان طرفا أساسيا في التصعيد، ولكنه تخيل أن العالم بأسره يخضع لخطابه السياسي الداخلي، وتنطلي عليه المقولات المعدة للاستهلاك المحلي، وكم يبدو ذلك قريبا مع حالة الانفصال عن الواقع، التي اعترت الرئيس السوري (الأسد الابن) في الأشهر الأخيرة من حكمه.
لم يعترف صدام حسين يوما بالهزيمة في حرب الخليج الثانية، وبقي نظامه قائما على المبادئ نفسها وعازفا عن إجراء أية مراجعات أو إصلاحات ضرورية، لأنها تعني ببساطة تجاوز النظام نفسه والتأسيس لنظام مختلف، الأمر الذي لا يمكن أن تتحمله عشرات القيادات من غير أصحاب الكفاءة والمفتقدة للشرعية بشكل كامل من أقارب الرئيس وعائلته، ممن تحصلوا وقبضوا على عملية صنع القرار في العراق، وأخذوا يتمتعون بالمزايا والامتيازات من غير أي مبرر منطقي، وبدلا من محاسبة هذه الطغمة، تخلص النظام من بعض الضباط الذين تطلعوا إلى مراجعة قرار غزو الكويت ونتائجه.
الهزيمة من الأحداث التاريخية، التي تصنع في حالة إقرارها البداية الجديدة التي تحتاجها بعض الشعوب، لأنها تكشف إما عن أوجه الخلل في بنية النظام، أو عدم صلاحية قيادته، في قراءة المواقف وتصور النتائج، وفي حالة المكابرة والتواصل في التضليل فإن نظام الهزيمة يعود إلى لملمة مكتسباته، تحت ذريعة العودة واستئناف المعركة، من غير أن يجري أية إصلاحات جذرية، أو يتيح الفرصة للشعب من أجل التفاعل تجاه استيعاب واقع الهزيمة، التي يمكن أن تكون كامنة أصلا في بعض تصوراته وأفكاره وتقاليده، وفي مسيرة إنكار الهزيمة يتصاعد القمع لتتشكل داخله تفاعلات الغضب الكامن المستعد للانفلات، تجاه الاقتتال الذي يتخذ صورة انتقامية، لينتج في النهاية نظام يواجه المشكلات التي صنعت الهزيمة السابقة، ويتصرف وكأنه الوجه الآخر للعملة نفسها.
الاعتراف بالهزيمة لا يعني الاستسلام، ولا يعني التوقف عن المسيرة، ولكنه ينظر في أسباب فشل تجربة كاملة ويحاكمها، بدلا من الانصياع لشروطها من جديد، والإبقاء على العوامل نفسها التي حركتها وتغذية أوجه ضعفها من جديد، فحالة الإنكار هي الضربة القاضية التي تأتي من الداخل، ولا تفعل هذه الحالة من الغرور والمكابرة، التي تصبغ عادة الأنظمة القمعية والاستبدادية، سوى زيادة الطين بلة، كما تبدى وظهر واضحا في الأوضاع التي أنتجها سقوط هذه الأنظمة غير المؤمنة بفكرة الهزيمة، وما تقتضيه من مراجعة ومحاسبة في العراق وليبيا.
إن لم تكن الحالة التي تعيشها معظم الدول العربية حاليا، تعبيرا عن الهزيمة وتجليا لها، فما الذي يمكن أن يوصف به الكثير من الأحداث والمحطات المريرة التي عاشتها الشعوب العربية، ودفعت وما زالت تدفع الكثير ثمنا لها.