فرنسا دولةً تطارد عباءة

المهدي مبروك

حرير- بعد تصريحات غريبة أطلقها قبل أيام وزير التربية الفرنسي، غابرييل أتال، عن قرار بلاده حظر العباءة في الفضاء المدرسي، وما أثارته من ردّات أفعالٍ مختلفةٍ بين مساندة ومعارضة، حسم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الجدل، وأكّد أن الأمر لا يتعلق باجتهادات فردية، بل هو قرار الدولة الفرنسية النابع من تصوّرها للمدرسة، باعتبارها فضاء مواطنة، وكرّر مرتين أن المدرسة لائكية، مذكّراً بأن التعليم الفرنسي مجاني، إلزامي، لائكي.

تندرج هذه التصريحات في رؤية فرنسية تقدّم فيها أسوأ نسخة من العلمانية، رغم أن فرنسا تفضّل استعمال لفظ اللائكية لراديكاليته وشموليته، فهذا المفهوم المحبّذ إلى حد القداسة لدى الفرنسيين يصادر الحق في الاختلاف والاحتفاظ بما هو ذاتي أو حتى جمعوي، تقدّم الدولة قالب اللائكية منذ التربية العائلية المبكّرة ومحاضن الأطفال وتصهر فيه الأفراد.

يعود هذا الولع باللائكية، وفق هذا النموذج الشامل، إلى تراث فرنسي عريق، يعود بشكلٍ خاص إلى الصراع المرير الذي عرفته البلاد بين “النظام القديم” و”النظام الجديد” الذي اخترق قرني الثورة الفرنسية. ولم يحسم الأمر إلى بداية القرن العشرين، حين جرى تعميم اللائكية على جميع مجالات الحياة، وفق تسوياتٍ مؤلمة ومريرة مع الكنيسة. كانت قوانين 1905 قد أنهت الجدل لفائدة لائكية منتصرة. وسيتحوّل هذا الغرور، تدريجياً، إلى فوبيا فرنسية من كل ما هو ديني، حتى ولو كان تجارب تديّن فردية خالصة. كما توسّع هذا الهوس اللائكي إلى الخوف من تجارب علمانية أخرى، تقوم على قواعد مختلفة إلى حد كبير، على غرار علمانيات ألمانيا (وجوب حضور ممثلي الكنيسة في مجالس الجامعات مثلاً) وبريطانيا وأميركا وكندا… إلخ.

لا أحد يجادل بأن هذه البلدان علمانية، وقد وجدت تسويات عديدة في “فصل الدين عن الدولة”، ولكن فرنسا ظلّت تكابر بأنها تقدّم النموذج الأكثر نصاعة في اللائكية، بل إنها النسخة الوحيدة والكونية التي عليها أن تسود!

كانت فرنسا، تحت هذا الهوس العلماني الذي ارتقت به رسمياً إلى مرتبة ركن الهوية وحصنها، قد ابتكرت مهزلة تسمية “وزارة الداخلية والهوية الوطنية” ذات يوم. كانت هذه الوزارة معنية بشنّ حرب شاملة وضروس على المهاجرين، على اعتبارهم خطراً داهماً يهدّد الهوية الوطنية وكل مظاهر اللباس والعادات والتقاليد التي تهدّد لائكيتها، وذهبت في ملاحقة الناس، حتى في أبسط علامات هويتهم الدينية، بما فيها الشكلية منها: الحجاب، البرقع… وأردفت ذلك في شطط عبثي كل العلامات الدينية، حتى وإن كانت حلياً أو قلائد. ولم يستهدف هذا المسلمين تحديداً، بل جرى تعميم ذلك، ليشمل جميع الديانات، غير أننا نعلم أن ضحايا هذا المفهوم الشمولي للائكية هم المسلمون، وتحديداً أبناءهم من الجيل الثالث أو الرابع.

على مقربة من فرنسا، تقدّم بريطانيا نموذجاً آخر لعلمانية مرنة، حريصة على حماية حرّية الأفراد وخصوصياتهم، بل توسّعت المسألة إلى مفهوم أوسع للهوية الوطنية، يحرص على دمج الجاليات، من خلال التعليم والصحة والشغل والحقوق الاقتصادية والاجتماعية… إلخ.

استطاع مسلمون عديدون وغيرهم في المجتمع البريطاني، من خلال التعليم والعمل والسكن، وفي سياق حقوق المواطنة التي هي فوق كل اعتبار، بما فيها حقّ اللباس وحقّ التقاليد وحقّ الحفاظ على الجماعة وعدم تذويبها، أن يتقلدوا مناصب عليا في الدولة، في حين ظل النموذج الفرنسي للاندماج على قاعدة اللائكية انتقائياً، ينتدب من تنكّروا لأصولهم الثقافية والإثنية، ثمن عليهم دفعه، حتى يُعترف لهم بفرنسة من درجة ثانية.

قد نرى في الأيام القليلة المقبلة فيالق أمنية تحاصر المدارس والطرقات المؤدّية إليها، من أجل القبض على عباءة تلبسها فتاة مضطرّة لذلك، لتتحايل على قانون جائر سبقه يمنع الحجاب. في سياقات أخرى وتجارب مغايرة، لا يثير الحجاب حتى مجرّد الانتباه تماماً، مثله مثل أزياء الهنود، وعمامة السيخ، وجلابيات الأفارقة، وغيرهم. ولكن في فرنسا وحدها يجري التركيز عليه، حتى يخرج من نطاق الدائرة الفردية الحميمية إلى دائرة النقاش العمومي، بل القضية الوطنية التي تخوضها فرنسا انتصاراً لهوّيتها.

في سياقٍ تتراجع فيه المدرسة الفرنسية على جميع الأصعدة، حتى بدا تعليمها “رثّاً”، وفي سياقٍ تُطرد فيه بشكل مذلّ، تعمد فرنسا إلى مطاردة العباءة من أمام المدارس، بعد أن ربحت معركة حامية حينما منعت البرقع قبل الحجاب. وستبتكر فرنسا دوماً أعداء الداخل لتصير انتصاراتها على قلادة وعباءة وقرط وقطع القماش المتناثرة هنا وهناك. إنها معركة فرنسا المقدّسة التي يباركها بعضهم من نخبنا أكثر من النخب الفرنسية ذاتها.

مقالات ذات صلة