محمد الفايد… حبّ من طرف واحد لبريطانيا

محمود الريماوي

حرير- أمضى الملياردير المصري، محمد عبد المنعم الفايد، الشطر الأكبر من حياته في دراما فريدة، تقوم، في جانب أساسيٍّ منها، على الهرب المتواصل من ماضيه، مع أنه ماضٍ لا يشين الرجل، بل اتّسم بالعصامية والكدح الشريف ومغالبة ظروف اجتماعية متواضعة، بالعمل حمّالاً وبائعا متجوّلاً للمشروبات الغازيّة، ما كان يجدر به النظر بفخر إلى تلك البدايات، وليس التبرّؤ منها، ونسج رواياتٍ خياليةٍ محلوم بها، من قبيل ادّعاء انتمائه إلى عائلةٍ ثريّةٍ من مزارعي القطن، وإن مربية إنكليزية قد تعهّدت بتربيته في طفولته، مع ما في ذلك من تبخيسٍ لمكانة والدته في نفسه التي رحلت عن الدنيا في وقت مبكر من حياته، لكنه ليس وقتاً مبكراً جدّاً يسمح للطفل البكر محمد بتناسي من أنجبته، وسهرت على تنشئته، وهي والدته السيدة هانم قطب، فقد توفيت بعد أن أنجبت شقيقين يصغرانه، صلاح وعلي.

من جهة ثانية، لم يكتفِ الرجل بطلب الحصول على جنسية بريطانية، حيث يقيم في المملكة المتحدة منذ عام 1974، مع فترات غياب قصيرة ومتقطعة، إلى أن وافاه الأجل في 30 الشهر الماضي (أغسطس/ آب) عن 94 عاماً بين زوجته الفنلندية هايني وأبنائه وأحفاده. كان طلبُ التمتّع بالجنسية حقّاً له مثل غيره، بعد أن برهن على نجاح فائق في عالم الأعمال، غير أنه لم يكتف بذلك، بل سعى للتقرب من العائلة المالكة قبل أن ينقم عليها، وقد كان يراهن على مستقبل العلاقة بين ابنه عماد (دودي) والأميرة ديانا. ورغم أن الشبهات ظلت تحوم حول حادثة مقتلهما في حادث سيّارة في باريس، إلا أنه لم يستطع إثبات وجود مؤامرة وراء ذلك الحادث المأساوي، وقد ادّعى أن ديانا كانت حاملاً من ابنه لدى وفاتها، وهو ما لم يثبت في التشريح. وتكتسب الدراما هنا بعداً إضافياً، ذلك أن ديانا لم تكن عنصراً مقبولاً لدى الأسرة المالكة، إذ إن طلاقتها النفسية المزيّنة بابتسامة طبيعية مُشعّة ودائمة، وروحها المشرقة، وانتماءها لعامّة الشعب، وكسرها البروتوكول، هي مما نفّر قصر بكنغهام من هذه السيدة اللطيفة، فانتقل النفور الملكي منها إلى رفيقها دودي الفايد ووالده، علاوة على الفوارق “الثقافية” مع أسرة الفايد الشرقية المصرية العربية المسلمة، وقد اجتهد محمد الفايد في “التطنيش” عن ذلك كله، مراهناً على قوة العاطفة التي تجمع الشابّين، غير أن القدر مفرّق الجماعات وهادم الملذّات لم يتأخّر في قول كلمته.

وقد اقترن سعيُه المحموم إلى التخلّص من ماضيه بسعيه إلى الانضمام إلى طبقة كبار الأثرياء في المجتمع اللندني، غير أن مسعاه قوبل بالصدّ، ابتداء من رفض منح الجنسية له، بزعم أن مصادر ثروته غامضة، وهي تهمة ساقها القضاء ضدّه، ولم تجد ما يسندها، إذ لم يسبق أن تعرّض لاتهامٍ يتعلق بذمّته المالية في أي بلد، بينما ينبئ المسار المهني لحياته عن ظروف مواتية لتكوين ثروات، إذ عمل، في بداية صعوده في عام 1952، مع رجل الأعمال السعودي، عدنان خاشقجي، الذي كان من أعلام الشحن البحري ومُلكية البواخر التجارية العملاقة والوسيط في تجارة الأسلحة. وقد بلغ قربُ الفايد من خاشقجي أنه تزوج من شقيقة الأخير، الكاتبة سميرة خاشقجي، وأنجب منها ابنه عماد. كذلك يشير سجلّه المهني إلى صلات عملٍ عقدها مع حاكم دبي الأسبق، راشد بن سعيد آل مكتوم، وأنه أسهم في بناء ميناء دبي وغيره من الموانئ. وثمّة رواياتٌ عن دور له في التعاقد مع شركاتٍ نفطيةٍ لاستخراج النفط من دولة الإمارات، وإن كانت غير مثبتة، كما نجح في العمل في عام 1966 مستشاراً لسلطان بروناي، عمر علي سيف الدين الثالث.

ولا شكّ في أن الفقر لن يطرُق باب من يزاول هذه المهن، وسوف تكون ثروته معلومة المصادر والظروف. والظاهر أن محمد الفايد، بطموحه الجامح، واندفاعه المحموم للالتحاق بالمجتمع المخملي في لندن، قد أطلق حوله وفي وجهه موجاتٍ من الكراهية والتحاسد، إلى درجة أن أحد منافسيه من البريطانيين، مالك صحيفة الاوبزيرفر، رونالد تيني، قد أقسم بطرده مع عائلته من المملكة المتحدة، ومن دون أن تُسجّل عليه مخالفة أو سابقة تسوّغ هذا التهديد شبه العنصري، ومن شخصٍ لا يملك سلطة تقرير هذا الأمر وتنفيذه.

بهذه التقلبات بين نجاح مهني وتعثّر بعض طموحاته الشخصية، سارت دراما حياته المطبوعة بطابع الحبّ من طرف واحد تجاه بريطانيا. وقد بلغت هذه الدراما ذروتها بمصادفة وفاته مع حلول الذكرى الخامسة والعشرين لوفاة نجله البكر عماد مرفوقاً بالأميرة ديانا. وخلال حياته المديدة، وبعد مغادرته مصر في 1952، لم يُعرف عنه أنه قصد موطنه الأصلي، ولو في إجازة أو زيارة عابرة، كما لم يتردّد اسم مصر على لسانه في منابر علنية، وبينما تبرّع بملايين الجنيهات الإسترلينية لجمعياتٍ خيريةٍ بريطانيةٍ ولدول أفريقية، إلا أن مصر لم تكن يوماً بين هذه الدول. وبهذا، لم يقطع الفايد مع ماضيه فحسب، بل مع جذوره أيضاً.

وواقع الحال أن الرجل، إذ واصل الهرب من ماضيه والانتقام منه، عبر النجاحات المهنية، إلا أن مشاعره نحو وطنه الأم لم تكن طيبة كما يبدو، إذ لم ينس أن ثورة 1952 كادت تدمّر نجاحه المهني في البدايات، حين صدر قرار التأميم، ما هدّده بفقدان أول ملكية ذات شأن يحوزها، وهما باخرتا شحن امتلكهما خلال عمله مع عدنان خاشقجي، وكانتا تعملان على خط “جنوى – الإسكندرية – بيروت – إسطنبول”. وقد تبيّن في ما بعد أنه يمتلك سفناً أخرى كانت ترسو آنذاك بعيداً عن الموانئ البحرية المصرية. ومع ذلك، كان يطربه أن يوصَف بـ”الفرعون الصغير”. وقد بلغ به طموحه الجارف، مع حنقه على المملكة المتحدة، أن حرّض الاسكتلنديين على الانفصال عن المملكة، مدعياً أن سكوتا، أخت الفرعون المصري توت عنخ آمون، قد هربت من عائلتها وحلّت في اسكتلندا، ووفقاً لذلك، سُمِّيت اسكتلندا بهذا الاسم لاحقاً تكريماً لشقيقة الفرعون، ولم يتوان الرجل عن التصريح أن “الاسكتلنديين من أصول مصرية”. وفي عام 2009، خاطب الاسكتلنديين بقوله: “حان الوقت كي تستيقظوا وتنفصلوا عن الإنكليز… لأي مساعدة تحتاجون؟ حين تستعيد اسكتلندا استقلالها، فإني على استعداد لأن أكون رئيسكم”. وكان قد مهّد لذلك بشراء ممتلكاتٍ عقاريةٍ ثمينةٍ في هذا البلد. ولم يكن الطموح بالالتحاق باسكتلندا سوى ثمرة فجّة لنزعة الانتقام من بريطانيا لديه، وبمنزلة هروب إلى الأمام من موطنه الأصلي مصر، والتمويه على ذلك بالزعم إأن الاسكتلنديين ما هم إلا مصريون.

لقد جنى محمد الفايد أموالاً طائلة (أقل بقليل من ملياري دولار)، ومن المشكوك فيه أنه كسب السلام مع ذات نفسه، وقد خسر الارتباط بالوطن الأم مصر، من دون أن يربح بريطانيا.

مقالات ذات صلة