ليست تحولاً في تاريخ الصراع”.. مؤرخون إسرائيليون: اتفاقيات التطبيع ستزعزع استقرار المنطقة بشكل أكبر

** هل يشكّل التطبيع نقطة تحول تاريخية في مسار العلاقات العربية الإسرائيلية؟ الإجابة هي: لا 

حرير – إبَّان إبرام اتفاقيات التطبيع الأخيرة التي وقَّعتها عدة دول عربية مع إسرائيل في أواخر عام 2020، وُصفت تلك الاتفاقيات بأنها “تاريخية”. وفي هذا الإطار، نشرت مجلة History Today البريطانية في عددها لشهر فبراير/شباط 2021، تحليلاً موسعاً يستعرض آراء أربعة خبراء بينهم مؤرخان إسرائيليان بارزان، ورؤيتهم حول ما إذا كانت تلك الاتفاقيات تستحق بالفعل هذا الوصف، وما إذا كانت ستؤدي إلى تغييرٍ طويل الأجل في الصراع العربي الإسرائيلي.

“اتفاقيات تطبيع بشروط إسرائيلية”

وحول ذلك، يقول آفي شلايم، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أكسفورد وأحد وجوه مدرسة “المؤرخين الجدد” الإسرائيليين، إن “اتفاقيات أبراهام تمثل بالأحرى تحولاً في سياسات الحكام المستبدين العرب”.

وأضاف شلايم أن “اتفاقيات أبراهام” لا تستحق هذا اللقب الكبير بأنها “تاريخية”، لأنها لم تتعرض للسبب الجذري للصراع العربي الإسرائيلي. فالمشكلة الفلسطينية، في رأيه، هي جوهر هذا الصراع، ولطالما كانت القضية المركزية في السياسة العربية منذ عام 1945. كما أنه حتى وقت قريب، كان هناك إجماع طاغٍ في العالم العربي لصالح دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل كثمنٍ لأي سلام شامل مع إسرائيل.

يقول شلايم إن هذا الإجماع برز بتعبيره الأكثر موثوقية في مبادرة السلام العربية، وهي قرار تبنَّته الدول العربية بإجماع في قمة جامعة الدول العربية ببيروت عام 2002. وعرضت المبادرة وقتها على إسرائيل السلام والتطبيع مع جميع الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية مقابل انسحابها من جميع الأراضي العربية المحتلة [على حدود عام 1967] والموافقة على قيام دولة فلسطينية مستقلة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وعاصمتها القدس الشرقية. غير أن إسرائيل رفضت العرض، وما تزال مستمرة في رفضه.

وأشار إلى أن ثمة نقطة تشترك فيها اتفاقيات أبراهام الأربع [التي أعلنتها الإمارات والبحرين والسودان والمغرب]، وهي أنها “تشكّل سلاماً بشروط إسرائيل”. بعبارة أخرى، السلام مقابل السلام، بدلاً من الأرض مقابل السلام، التي طرحتها المبادرة العربية، ما يعني أن إسرائيل ليست مضطرة إلى دفع أي ثمن للتطبيع. ومن ثم، يظل الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة تحت احتلال عسكري هو الأشد وحشية والأطول زمناً في العصر الحديث، بحسب شلايم. وليس من المستغرب حينها أن يندد الفلسطينيون باتفاقات أبراهام باعتبارها طعنة في الظهر.

ويلخص شلايم رأيه بالقول إن ترامب أقنع الحكام الاستبداديين للدول العربية الأربع بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، مقابل وعود بأسلحة أمريكية واحتواء إيران ورفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وأخيراً الاعتراف بسيادة مغربية على الصحراء الغربية المتنازع عليها. ومع ذلك، فإن تلك الاتفاقات قوبلت بمعارضة شعبية قوية في الدول الأربع وبقية العالم العربي. وما يقوله شلايم هو أن تلك الاتفاقات تشكّل تحولاً براغماتياً في سياسات الحكام السلطويين العرب، وليست نقطة تحوُّل حقيقية بالعلاقات العربية الإسرائيلية.

“لكي تعيش إسرائيل في سلام، عليها أن تنهي احتلالها لفلسطين”

من جهته، يقول فواز جرجس، أستاذ العلاقات الدولية بكلية لندن للاقتصاد ومؤلف كتاب “Making the Arab World”، إن القرارات السياسية كثيراً ما تفضي إلى عكس نتائجها المقصودة، ومن هذا المنحى فإن ما يسمى بـ”صفقة القرن” يشكّل بالفعل نقطة تحوُّل تاريخية في العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية، لكن ليس بالطريقة التي قصدها ترامب ونتنياهو.

إذ إن قرار ترامب منح الجزء المتبقي من فلسطين التاريخية لإسرائيل، من جانب واحد وبطريقة غير قانونية، لم يدمّر إطار حل الدولتين فحسب، بل جعل أيضاً مسار الدولة الواحدة أو دولة ثنائية القومية ذات مواطَنة وحقوق متساوية لكلا المجتمَعين واقعاً لا مفر من المآل إليه، حسب تعبيره. فعلى الرغم من أن الهدف الاستراتيجي لإسرائيل هو القضاء على فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة ذاتها، فإن تصرفات ترامب ونتنياهو ستؤدي في النهاية إلى دولة ثنائية القومية (إسرائيلية عربية): وهو الانتقام النهائي للتاريخ، بحسب جرجس.

أما فيما يتعلق بتطبيع العلاقات الرسمية العربية الإسرائيلية -والذي كُشف عنه وسط ضجة إعلامية كبيرة في الأيام الأخيرة لإدارة ترامب- فإن جرجس يذهب إلى أن تلك الاتفاقيات كانت ببساطةٍ “شراكةً جيواستراتيجية بين حكام عرب مستبدين قلقين على كراسيهم من جانب، وإدارة إسرائيلية توسعية من الجانب الآخر”.  فالمستبدون العرب باتوا الآن يعتبرون إيران والمعارضة الشعبية لهم في الداخل تهديداً أكبر من إسرائيل، ومن ثم فهم مستعدون للتخلي عن فلسطين والتضحية بها على مذبح التحالف الاستراتيجي، الذي يرونه مصدر الأمان لهم، مع إسرائيل.

لكن الأمر أبعد ما يكون عن كونه نقطة تحوُّل تاريخية بالمعنى المعلن، إذ تتجاهل هذه الشراكة العربية الإسرائيلية المفروضة من أعلى إلى أسفل، الأسئلة الجوهرية حول الحقوق الفلسطينية وطبيعة وجود إسرائيل في المنطقة. ولا يزال النزوع إلى دعم القضية الفلسطينية حاضراً بعمق في المخيلة الشعبية العربية التي تعتبر إسرائيل تهديداً وجودياً. وفي هذا السياق، تتناقض الدراسات الاستقصائية واستطلاعات الرأي لمواطني الدول العربية والإسلامية حيال إسرائيل تناقضاً حاداً مع الرواية الدعائية التي روّجها الحكام العرب والسياسيون اليمينيون في إسرائيل والولايات المتحدة.

ومن ثم، يقول جرجس إن إسرائيل إذا أرادت اندماجاً كاملاً في شبه الجزيرة العربية والعيش في سلام دائم، يجب عليها إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية والعربية والاعتراف بالحقوق المشروعة لجيرانها. وتوفر هذه اللحظة التاريخية لإسرائيل خياراً حاسماً:

إما العمل على تطوير سلام حقيقي بالمنطقة وإما الاستمرار كحصن استعماري، بمعنى العيش في حالة حرب دائمة مع من حولها، بحسب وصف جرجس.

“اتفاقيات التطبيع لا علاقة لها بالقضية الفلسطينية، بل التودد لواشنطن”

أما إيلان بابيه، المؤرخ الإسرائيلي وأستاذ التاريخ في جامعة إكستر بالمملكة المتحدة ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية، فيقول إن “اتفاقات التطبيع لا علاقة لها بالقضية الحقيقية في إسرائيل وفلسطين”.

يدفع بابيه بأن اتفاقيات أبراهام لا تشكّل نقطة تحول في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ويستند في حججه إلى أنه حتى قبل إنشاء دولة إسرائيل، كانت هناك فجوة بين الطريقة التي تنظر بها المجتمعات العربية إلى التضامن مع النضال الفلسطيني والطريقة التي تتصرف بها حكوماتهم على الأرض. وقد كان هذا واضحاً على نحو خاص في عام 1948، عندما كان الرأي العام العربي هو الفاعل الذي أجبر الحكومات العربية المترددة، على التدخل عسكرياً في فلسطين.

ويشير بابيه إلى أنه لفترة من الوقت، لم يكن الفارق بين الرأي العام العربي والموقف الرسمي فارقاً بارزاً. فقد أدّت شعبية الحركة الوطنية الفلسطينية من جهة ورغبة إسرائيل في إقامة تحالف غير عربي بالشرق الأوسط (مع إيران وتركيا) من جهة أخرى، إلى تبلور سياسات حكومية حظيت بتأييد واسع من الرأي العام المحلي. ومع ذلك، فإنَّ تراجع الوجود السوفييتي في المنطقة والنجاح المصري النسبي في حرب أكتوبر/تشرين الثاني 1973، دفعا بمصر إلى الخروج من دائرة الصراع المباشر مع إسرائيل، على حساب الفلسطينيين. وكانت هذه مقدمة لسيرورة مستمرة إلى اليوم، والتي أفضت ببعض الأنظمة العربية إلى تطبيع علاقاتها أخيراً مع إسرائيل، مع تجاهل الالتزام المستمر والعميق بالقضية الفلسطينية بين مجتمعاتها.

باتت الهيمنة الأمريكية بعد نهاية الحرب الباردة تعني أن بقاء عدد غير قليل من الأنظمة يعتمد في المقام الأول على أن تكون العلاقات جيدة مع الولايات المتحدة. وعلى هذا الأساس، أصبح كثير من القادة العرب مقتنعين بأن الطريق إلى واشنطن يمر عبر تل أبيب. حتى منظمة التحرير الفلسطينية قبلت هذا المنطق بطريقةٍ ما، عندما وافقت على اتفاقية أوسلو. وهذا هو الدافع نفسه وراء اتفاقيات أبراهام: التودد إلى الولايات المتحدة.

على النقيض، كشفت انتفاضات الربيع العربي أن التحول الديمقراطي في العالم العربي يعني، من بين جملة أمور، المطالبة بسياسةٍ أشد التزاماً بالقضية الفلسطينية. ومن ثم قد تؤدي سياسات التطبيع الأخيرة إلى مزيد من زعزعة الاستقرار في المستقبل. والأهم من ذلك، أن تلك الاتفاقات لا علاقة لها في واقع الأمر بالقضية الحقيقية بين إسرائيل وفلسطين. فإسرائيل تسيطر على كل فلسطين التاريخية، ونصف السكان هناك فلسطينيون يعيشون تحت نظام حكم احتلالي إسرائيلي ينكر حقوقهم الإنسانية والمدنية الأساسية. وطالما استمر هذا الوضع، فلن يحول اتفاق -أي اتفاق-  دون وقوع نزاعات وإراقة الدماء بين الجانبين في المستقبل، بحسب بابيه.

“الدين عامل أساسي في هذا الصراع، والدبلوماسية عاجزة عن معرفة ما يجب فعله حول ذلك”

أخيراً، يقول جيمس رودجرز، مراسل BBC في غزة (في الفترة من 2002 إلى 2004) ومؤلف كتاب Headlines from the Holy Land: Reporting the Israeli-Palestinian Conflict في عام 2015، إن الاتفاقيات تمثل بالفعل لحظة مهمة. فبعد سنوات من التعامل مع إسرائيل (علنياً، على الأقل) عبر العالم العربي على أنها عدو، باتت لديها الآن “اتفاقيات سلام مع الإمارات، وسلام مع البحرين وسلام مع السودان وسلام مع المغرب”، ومع ذلك فإن ذلك لا يجعلها نقطة تحول تاريخية.

إلى ذلك، فإن الأسباب التي تجعل هذه اللحظة ليست نقطة تحول تاريخية، أسباب متجذرة في تاريخين بعيدين: 1948 و1967، بحسب رودجرز. شهد التاريخ الأول إعلان تأسيس دولة إسرائيل، وشهد الثاني بداية الاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة. ويذكر التاريخ الفلسطيني كلتا اللحظتين على أنهما نكبتان عانى فيهما الفلسطينيون ظلماً فادحاً، وهي مظالم لم يُنتصف منها بعد ولم يتم تناولها في تلك الاتفاقيات. وفي حين يذكر نص الاتفاق بين إسرائيل والبحرين “استمرار الجهود للتوصل إلى حل عادل وشامل ودائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني”، فإن الفلسطينيين لا يرون في هذا الاتفاق شيئاً يُذكر بالنسبة إليهم، ولبيان ذلك، سحبت السلطة الفلسطينية مُمثليها مؤقتاً من البحرين والإمارات.

يقول رودجرز، سُميت اتفاقيات أبراهام بهذا الاسم من قِبل الرعاة الأمريكيين استناداً إلى ما يدَّعون أنه رغبة لديهم في “تعزيز ثقافة السلام بين الديانات الإبراهيمية الثلاث”. وهنا تتطرق الاتفاقات إلى عنصر أساسي في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني دون تقديم حل له. ففي مقابلة أجريتها مع دانيال كيرتزر، السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل، في أثناء التحضير لكتابي الصادر عام 2015، قال لي: “لقد برهنت  الوقائع، حتى الآن، على أن الدبلوماسية عاجزة عن معرفة ما يجب فعله بشأن الدين”، وهو عامل رئيسي في هذا الصراع.

وملخص الأمر أن تلك الاتفاقيات من المرجح أن تُذكر على أنها ذات تأثير في المنطقة عموماً، من جهة أنها كانت جزءاً من سياسة ترامب الخارجية المؤيدة بشدة لإسرائيل، ولما تنطوي عليه من إمكانات لبناء تحالفات دبلوماسية ضد إيران، غير أن كل ذلك لا يجعلها نقطة تحول تاريخية في العلاقات العربية الإسرائيلية، لأنها غير معنيَّة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ولا تناولته، على نحو مباشر.

 

مقالات ذات صلة