حين لا جدوى للسلاح في مخيمات لبنان الفلسطينية

سامية عيسى

حرير- أعادت الاشتباكات الداخلية أخيرا في مخيّم عين الحلوة طرح إشكالية جدوى السلاح في المخيمات الفلسطينية في لبنان، خصوصا بعد التجارب المريرة التي عانى منها اللاجئون الفلسطينيون بسبب انتشاره في المخيمات بشكل عبثي وغير مبرّر، باستثناء ما يمكن أن يكون مفهوما في البدايات إبّان انطلاقة الثورة الفلسطينية (1965) بوصف الكفاح الشعبي المسلّح الطريق الوحيد لتحرير فلسطين.

كان دخول السلاح المخيّمات حينها نوعا من الحماية لهذه المخيمات التي عانت الكثير من الإهانات والاعتداءات والاعتقالات من الأجهزة الأمنية اللبنانية. وحين تعقّدت العلاقات بين الجانبين، الفلسطيني واللبناني، مع دخول السلاح إلى المخيمات بعد اشتباكات عنيفة في 1969، أبرم اتفاق القاهرة برعاية الرئيس المصري جمال عبد الناصر ودعمه. سمح بوجود السلاح في المخيمات، ضمن احترام السيادة اللبنانية. لكن التأييد الشعبي اللبناني العارم آنذاك للثورة الفلسطينية تخطّى الاتفاق، ما أدى إلى اختلال الميزان الداخلي الطائفي الذي يقوم عليه النظام اللبناني أو ما يسمّى 6 و6 مكرّرالذي يمنح الطوائف المسيحية (سيما المارونية) امتيازات استثنائية في رئاسة الجمهورية وفي تشكيل مجلسي النواب والوزراء والوظائف العليا في الدولة. فمع تصاعد التأييد للثورة الفلسطينية من الحركة الوطنية اللبنانية بكل طوائفها وأحزابها، شعرت الأحزاب المسيحية اليمينية (الكتائب والأحرار) بمخاطر هذا التأييد على مصالحها بوصفها أحزابا ادّعت حينها تمثيل المسيحيين. وكشّرت عن أنيابها في افتعال أحداث أمنية، فكانت مجزرة عين الرمانة (مثال) بحق الحافلة التي قضى فيها 28 فلسطينيا في 1975 شرارة الحرب الأهلية اللبنانية، وبداية التورّط الفلسطيني في رمال لبنان المتحرّكة. تلتها مجازر عدة ضد المخيمات الفلسطينية (تل الزعتر مثالا) جعلت من السلاح ضرورة أكبر لحماية سكان المخيمات. وهنا يجب ألا نغفل جانب الموضوعية في تورّط أطراف فلسطينية في ارتكاب مجزرة الدامور بحقّ المسيحيين، ممن كانت على علاقة وثيقة بالنظام السوري آنذاك، تم فيها رفع السلاح الفلسطيني بوجه هذه التجاوزات، كما فعلت الكتيبة الطلابية آنذاك لوقف تلك المجزرة، وأيضا الاعتداء على بلدة العيشية الشيعية في الجنوب اللبناني (مثلا) وتجاوزات أخرى عديدة لم يكن السلاح الفلسطيني مستخدما فيها بالضرورة، بل جرى ارتكابها في زمن الهيمنة الفلسطينية على لبنان، ودعمها تسليح أحزاب لبنانية ناشئة، كأفواج المقاومة اللبنانية (أمل) في زمن موسى الصدر، وأحزاب شيوعية.

تداخلت تعقيدات كثيرة مع ظروف هذه الحرب الأهلية انقلب فيها الصديق إلى عدوّ بذريعة أخطاء كثيرة ارتكبها هذا السلاح، فضلا عن تجاوزات فلسطينية لم تحفظ حرمة الوجود على الأرض اللبنانية، وإنْ لا تبرّر هذه التجاوزات المجازر التي ارتكبت بحق المخيمات، خصوصا أن أصابع التدخّلات السورية والإسرائيلية في محطّات سياسية متعددة، التي أُعلِن عنها صراحة أو كُشف عنها لاحقا، ساهمت في زعزعة الوضع الفلسطيني في لبنان، عبر وكلائهما في لبنان، أدّت جميعها إلى إيجاد ظروف ساهمت في إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان إبّان الاجتياح الإسرائيلي 1982، وبكى لرحيلهم عشرات آلاف من اللبنانيين. رغم ذلك، وُضعت المخيّمات في فوهة المدفع.

وهنا يجب الإشارة إلى أن الوجود الفلسطيني في لبنان لعب دورا إيجابيا في محطّات كثيرة، بل شهد تلاحما بين الشعبين اللبناني والفلسطيني قلّ نظيره بين شعوب عربية أخرى. تلاحم قدم فيه الطرفان تضحياتٍ جساما في مسيرة التحرّر الوطني الفلسطيني والدفاع البطولي عن لبنان ضد اجتياحات إسرائيلية متكرّرة، آخرها الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. ولكن سلبيات كثيرة استُخدم فيها السلاح من كل الأطراف المسلحة (لبنانية وفلسطينية) حُمِّلَت على أكتاف الفلسطينيين وحدهم. ودفع الخروج الفلسطيني من لبنان سكان المخيّمات إلى إفراغها من السلاح تحسّبا من المداهمات الأمنية اللبنانية، سيما بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، نوعا من إبراز حسن النية. وقد تسبب هذا الخروج الفلسطيني من لبنان في إحداث فراغ سارعت جميع المليشيات اللبنانية إلى ملئه، سيما الحزب التقدّمي الاشتراكي وحركة أمل. كانت حرب المخيمات (1985 – 1987) مثالا صارخا لملء هذا الفراغ. دام حصار المخيمات الأعزل من السلاح، بداية، حوالي ثلاث سنوات من حركة أمل الشيعية، وبتحريض النظام السوري ودعمه وعلى مرأى ومسمع من حزب الله الذي بالكاد فعل شيئا لوقفه. منذ ذلك الوقت وقبله من مجازر ساهمت في هجرة كبيرة للاجئين الفلسطينيين من لبنان إلى الدنمارك على وجه الخصوص والسويد وألمانيا، حيث فتحت هذه الدول أبوابها لهم بشكل يثير الريبة ولا يزال. ولم يبق من اللاجئين الفلسطينيين إلا ما يقرب من 174 ألفا بحسب إحصاءات رسمية لبنانية، رعاها رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، تحت مظلة الحوار اللبناني الفلسطيني.

جرت مياه كثيرة تحت جسر السلاح في المخيمات التي ضعت في حالة ارتهان دائمة من أطراف دخيلة عليه من جماعات إسلامية متطرّفة (جماعة فتح الإسلام في مخيم نهر البارد)، ومن وجود غرباء كثيرين داخل المخيمات، منهم فقراء لبنانيون يستأجرون البيوت الخالية من أصحابها ممن هاجروا، وخليط من جنسياتٍ مختلفةٍ من خادماتٍ يعملن في لبنان عملا مياوما غير قانوني، وجدوا في استئجار بيوت الفلسطينيين الفارغة الرخيصة ضالّتهم، ومع ما توفره أيضا من حماية بوصفها جزرا أمنية لا تطاولها يد القانون، فضلا عن خارجين عن القانون وجدوا في المخيمات ملجأ لا تطاولهم فيه يد الدولة، في ظل تفلّت السلاح يمينا وشمالا وقرقعة لا تمتّ لتحرير فلسطين بصلة، إلا حين يراد لهذا السلاح أن يُوظّف لصالح أجندات مريبة ومريضة، ومن أطراف لبنانية وازنة تدّعي تأييدها القضية الفلسطينية.

لذلك، ولكل ما سبق، ولتعقيدات وتفاصيل كثيرة يصعب ذكرُها في هذه العجالة، بات طرح سؤال “جدوى السلاح في المخيمات” ضرورة قصوى لا تتعلق فقط بسيادة لبنان وظروفه الأمنية الهشّة، بل أيضا لما يسبّبه من أضرار للاجئين الفلسطينيين أولا وللقضية الفلسطينية ثانيا، وبوصفه أحد التهديدات الوجودية للمخيمات، بوصفها الشاهد الحي على نكبة 1948.

أخطر ما في السلاح داخل المخيمات توظيفه بطريقةٍ لا تخدم تطلعات الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه والعودة إليها، سيما بعد انكفاء المقاومة الفلسطينية إثر انسحاب منظمة التحرير من لبنان إبّان الاجتياح الإسرائيلي العام 1982، إذ أصبح غالبية هذا السلاح بيد جماعات إسلامية متطرّفة تسللت إلى المخيمات، وتحمل أجنداتٍ مريبةً لا علاقة لها بمسيرة تحرّر الشعب الفلسطيني. وإن شكّلت حركتا حماس والجهاد الإسلامي استثناء لهذه الجماعات، لكنهما أيضا توظّفان هذا السلاح لأجندات مرتبطة بحسابات إقليمية بحتة (كإطلاق عشرات الصواريخ من الجنوب اللبناني على فلسطين المحتلة، في إبريل/ نيسان الماضي، من مناطق يهيمن عليها حزب الله). وهذا إن اتفقنا مع الحركتين في كفاحهما ضد الاحتلال في الداخل، لكننا لا نتفق معهما لجهة توظيف سلاحهام لمصادر تمويلهما وخروجهما عن حالة الوحدة الوطنية التي يحتاجها النضال الوطني. بل إن أي سلاح فلسطيني اليوم يستخدم لبنان منطلقا له لا يمثل مصلحة وطنية فلسطينية، فهو يمس سيادة لبنان بوصفه خروجا على اتفاقياته التي أبرمها بعد حرب تموز 2006، والتي لا يجرؤ على خرقها حزب الله نفسه، ما يضع السلاح داخل المخيمات في خانة التعارض مع هذه السيادة والتدخل في شؤونه الداخلية لمصلحة طرف داخلي دون غيره.

أخيرا، لن تغوص هذه السطور كثيرا في نقد السلاح في المخيمات بوصفه أشاع حالة من الارتزاق ما زالت تردّداتها السلبية تشيع في صفوف المناضلين والمناضلات في الضفة الغربية وقطاع غزّة شكلت آفة أفسدت أجيالا وراء أجيال ممن يتلقون رواتب وهم لا يفعلون شيئا ذا قيمة في إدارات سلطتي حماس ورام الله. وهي حالة انتقلت مع الفلسطينيين بعد الخروج من لبنان، ومن ثم عودة كثيرين من المناضلين والمناضلات بعد اتفاق أوسلو إلى الداخل. آفة انطوت على كثير من المحسوبيات والتزلّم، وما تزال تسير على هذا النحو في مخيّمات لبنان، وإن باتت الفصائل الفلسطينية أقلّ إنفاقا لشحّ مصادر التمويل، وأيضا بسبب تراجع الاهتمام الرسمي للسلطة في رام الله خصوصا، وعدم الاهتمام الصادق بحياة سكان المخيّمات الذين يعانون أزمات معيشية خطيرة تجعلهم في وضع هشّ وبيئة خصبة للارتزاق . لقد ساهم السلاح في المخيّمات في تنمية مرتزقة وولاءات لا علاقة لها بأي عمل نضالي جدّي مدني أم مسلح. هذا ناهيك عما يُفسده حمل السلاح، من غير أن يجسّد الضرورة التي حُمل من أجله، وهو تحرير فلسطين.

السؤال الحقيقي الذي يجب أن يُسأل: ما مدى الخطورة التي يشكّلها السلاح في المخيمات على أهاليها. إنه السؤال الأصح. ويليه: من هم الذين يقتتلون حقّا في المخيّمات؟ فباستثناء حركة فتح والفصائل التقليدية، هذا السلاح اليوم، في جزء كبير منه، في أيد غريبة ليست مجهولة للسلطات الأمنية اللبنانية، بل تتابعها من حين إلى آخر، سيما مع شائعاتٍ جرت أخيرا عن دخول أكثر من ثلاثمائة مسلح من جماعات إسلامية جهادية متطرّفة “عين الحلوة”، خصوصا أن قوى لبنانية عديدة متضاربة المصالح تغذّي اليوم هذه الأيدي استعدادا لتوظيفها في الصراعات اللبنانية الداخلية، ما يحوّل سكان المخيمات إلى رهائن لأجندات غريبة وسلاح غريب لا يفهمون أسباب انتشاره بينهم. ولو سئل سكّان المخيمات اليوم عن رغبتهم ببقاء السلاح في المخيمات من عدمه في استفتاء صريح، لقالوا “لا للسلاح”، فقد سألت عديدين من سكان المخيمات في أثناء إعدادي تحقيقا عن مخيم نهر البارد نشر في مجلة أورينت 21 الفرنسية، قبل أكثر من أربع سنوات، وكان الجواب “لا” كبيرة. لكن من يسمح بطرح هذا السؤال للاستفتاء؟ بل من يجرُؤ على طرحه؟

مقالات ذات صلة