عالم ينهار عالم ينهض

علي العبد الله

حرير- بين التمسّك الأميركي بالنظام الدولي القائم، والسعي الصيني إلى تعديله، والروسي إلى تغييره، واعتماد القوى الثلاث “التنافس بين القوى العظمى” قاعدة لاستراتيجياتها من أجل الوصول إلى أهدافها، يقف العالم متوجّساً من خطوة غير محسوبة أو خطوة نزقة تقود إلى مواجهةٍ مفتوحةٍ بين هذه القوى، عواقبها عامة وكارثية، خصوصاً أن التنافس بين هذه القوى بات خلفيةً للعلاقات الدولية، بعدما غدت له ركائز صلبة وراسخة وامتدادات عريضة، وتسلّحت أطرافه بقدرات كبيرة ومؤثرة.

راهنت الولايات المتحدة، ولا تزال، على قدراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وعلى قدرتها على ضبط أدوار دول التحالف الغربي العسكرية عبر حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وضبط التوازنات الاقتصادية الدولية عبر مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى. وقد منحها صعود الصين وسعيها لبسط هيمنتها على جوارها الجغرافي ونفوذها على مساحاتٍ واسعة من المحيطَين، الهندي والهادئ، فرصة لاستثمار هواجس دول الإقليم ومخاوفها، ودفعها إلى الانخراط معها في تحالفات أمنية وعسكرية، تحالف “أوكوس”، اتفاق ثلاثي بينها وبين أستراليا والمملكة المتحدة، وتحالف “كواد”، الحوار الأمني الرباعي الذي يجمعها مع كل من أستراليا والهند واليابان، وجديدها أخيراً التحالف العسكري الجديد مع اليابان وكوريا الجنوبية، وصفه معلقون بـ”ناتو مصغّر”، وحديثها عن توقيع اتفاق شراكة استراتيجية مع فيتنام سيعقده الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، معها في زيارته لها في الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول). هذا بالإضافة إلى انتشار قواتها في عدة قواعد في دول الإقليم، اليابان وكوريا الجنوبية والفيليبين، وفي المحيطات والممرّات المائية الحيوية. وقد عكست وقائع قمّة مجموعة السبع في شهر مايو/ أيار 2023 في اليابان، واجتماع حلف الناتو في الشهر الماضي (يوليو/ تموز) في فيلنيوس (عاصمة ليتوانيا) مدى تحكّمها بخيوط اللعبة.

في حين بنت روسيا استراتيجيتها على التحرّك العسكري في دول الجوار، حيث أقامت قواعد عسكرية في طاجيكستان وقرغيزيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وأرمينيا، وتحرّكت عسكرياً ضد دولٍ في الجوار القريب مالت نحو التحالف الغربي، فهاجمت جورجيا، بعد فتح حلف الناتو، بدفع أميركي، باب العضوية أمامها وأمام أوكرانيا، عام 2008 واقتطعت من أراضيها مساحاتٍ أقامت عليها جمهوريتين مستقلتين: أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. وقد اعتبرت رد الفعل الغربي الفاتر ضعفاً، علماً أنه جاء في سياق سعي الولايات المتحدة لإبعاد روسيا عن الصين التي غدت، وفق استراتيجية الأمن القومي الأميركي، التحدّي الأكبر للهيمنة الأميركية وللنظام الدولي القائم على القواعد غربي المنشأ، فكرّرت العملية عام 2014 بمهاجمة شبه جزيرة القرم الأوكرانية واحتلالها وضمها إليها، بعد عملية استفتاء منسّقة، وتبعتها بمهاجمة منطقة الدونباس بذريعة حماية الروس هناك. وساعدت قوى انفصالية فيها على تأسيس جمهوريتين، دونيتسك ولوهانسك، وأجرت فيهما ترتيباتٍ مباشرة عبر منح سكانهما جوازات سفر روسية، وفتح حدود روسيا أمام حركتهم الشخصية والتجارية. وفرضت استخدام الروبل في التعاملات اليومية، وأرسلت قوات منها إلى سورية ومرتزقتها إلى ليبيا والسودان وأفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو. وجاء غزوها أوكرانيا عام 2022 ردّاً على عدم وقف إدماج أوكرانيا العملي في صفوف “الناتو”.

أما الصين، التي اندمجت عقوداً ضمن السوق الرأسمالي باستقبال الاستثمارات والشركات الغربية الباحثة عن مراكز إنتاج خارجية تستثمر قواها العاملة الرخيصة ومواردها الطبيعية، وتلقي على كاهلها تبعات الإنتاج البيئية، التلوّث، فتبنّت توجّهاً إنتاجياً، هدفه التصدير عبر الإنتاج الضخم، ولو بنوعيةٍ وجودةٍ أقلّ. وهذا سمح لها باكتساح الأسواق ومراكمة الأرباح وتوظيفها في توسيع إنتاجها وتحسينه، ما حوّلها إلى عبء على الأسواق الرأسمالية التي فقدت القدرة على المنافسة، بسبب مستوى الأجور وكلفة الإنتاج العالية في بلادها. وقد ترتّب عن تعارض المصالح بين الصين والولايات المتحدة اعتماد الأخيرة سياسة احتواء الصين عبر تقييد قدرتها على التطور والتوسّع، بدءاً بعقد اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ مع أستراليا، وبروناي، وكندا، وتشيلي، واليابان، وماليزيا، والمكسيك، ونيوزيلندا، وبيرو، وسنغافورة وفيتنام، خلال إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما. وفرضت ضرائب على السلع الصينية، وضغطت على الصين لشراء سلع أميركية أكثر لتعديل الميزان التجاري المائل لصالح الصين بقوة خلال إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، وتقييد قدرتها على الوصول إلى التقنيات الغربية الدقيقة، مثل أشباه الموصلات، وحشد قوات عسكرية في المحيطين، الهندي والهادئ، وجرّ دول في الإقليم لقبول الانخراط في تحالفاتٍ لتطويق الصين وعزلها خلال إدارة الرئيس الحالي، جوزيف بايدن، الذي كان أكثر عدائية تجاه الصين.

جاء رد الصين على السعي الأميركي لتطويقها وعزلها، بالعمل على تشكيل أطر تعاون مع دول في الجوار وتأسيس منظمة شنغهاي للتعاون الأمني مع روسيا، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، ومجموعة بريكس مع روسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا. وأسست البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية لتوفير مصدر تمويل وقروض للدول المحتاجة بعيداً عن البنوك الغربية وصندوق النقد والبنك الدوليين الواقعَين تحت النفوذ الأميركي، وبالتوجه غرباً عبر مبادرة الحزام والطريق، وفتح علاقات تعاونٍ مع دول في كل القارّات لكسر الحصار الأميركي، وتكريس نفوذ صيني معزّز باستثمارات في البنى التحتية والمناجم والنفط والغاز ونقل تقنيات إلى دول العالم الثالث؛ بحيث تؤمّن طرقاً برّية وبحرية لعبور إنتاجها إلى الأسواق، وتوفر الطاقة والمواد الأولية لآلتها الصناعية العملاقة، وباعتماد سياسة الكمّاشة في علاقاتها مع الشركات الغربية، بجعلها تعتمد عليها في الإنتاج وسلاسل التوريد وإلزام أكبر عدد ممكن من الدول بالنظم والقواعد والمعايير الصينية، ما يجعل انفصالها عنها أكثر صعوبة. هذا بالإضافة إلى تعزيز قدراتها العسكرية، البحرية خصوصاً، أصبحت تمتلك عدداً ضخماً من الزوارق المسلحة وثلاث حاملات طائرات، وزادت عدد صواريخها النووية، كذلك طوّرت أنواعاً من الصواريخ الفرط صوتية.

اتّفق محللون استراتيجيون كثر على تراجع فرص استمرار لحظة القطبية الأميركية، ودخولها مرحلة التآكل، في ضوء بروز مراكز قوى إقليمية ودولية، بدأت تلعب أدواراً مؤثرة في العلاقات الدولية، عبر تسجيل إنجازات سياسية واقتصادية وعسكرية، على حساب الدور الأميركي والحسم من حصّته في الإنتاج والتجارة.

غير أن ما يثير هواجس الدول ومخاوفها، أن الولايات المتحدة لا تزال تعمل على تثبيت النظام الدولي القائم، وتكريس نفسها قطباً وحيداً، وجعل القرن الحالي امتداداً لسابقه قرناً أميركياً، خصوصاً أن دولاً كثيرة تشعر بالأسى، ليس من عدم إشراكها في صياغة المعايير الدولية في النظام الدولي القائم، بل ومن تطبيق الغرب المعايير التي وضعها هو نفسه، وعدّلها مراراً بما يتلاءم مع مصالحه الخاصة بصورة انتقائية، وأن الولايات المتحدة وروسيا والصين تخوض صراعاً بكل الوسائل، من أجل تعزيز فرص انتزاع النفوذ والمكانة في أنحاء مختلفة من العالم، وكسب موقع متقدّم على زعامة القرن الحادي والعشرين. ففي وقتٍ تعاني فيه الولايات المتحدة من الاستقطاب الداخلي الحاد، ومن تراجع دورها العالمي، فإنها تؤلب الدول على الصين، والصين تنظر بقلق إلى إضفاء الطابع المؤسّسي على العلاقات بين الولايات المتحدة وشركائها، باعتباره محاولة أميركية جديدة لبناء تحالفٍ يجمع بين الشركاء الأطلسيين والأوروبيين وشركائهم في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ما دفعها نحو تعزيز علاقاتها العسكرية مع روسيا. فيما ترى روسيا ضرورة استثمار الاتجاه العالمي المتزايد نحو عدم الانحياز الذي أظهرته القوى المتوسّطة والاقتصادات الناشئة في توسعة مجموعة البريكس، وتحقيق مكاسب جيوسياسية واقتصادية في أفريقيا والشرق الأوسط، سيمنحها أوراقاً للمساومة وتحقيق بعض الأهداف.

اعتبر محللون مجموعة البريكس أرضية مناسبة لكسر الهيمنة الاقتصادية الأميركية ومعادلة قوة مجموعة السبع في ضوء امتلاكها مجموعة من المرتكزات الوازنة: عدد سكان ضخم، 3.2 مليارات نسمة، 42% من سكان العالم، يبلغ عدد سكان دول مجموعة السبع نحو 800 مليون نسمة، واقتصاد كبير، 31.5% من الاقتصاد العالمي، مقابل 30.7% لمجموعة السبع، إجمالي ناتج محلي حوالى 44 تريليون دولار، أكبر من نظيره في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي المكون من 27 عضواً، اقتصاد الصين وحده يفوق اقتصادات ستة من دول مجموعة السبع: ألمانيا، وإيطاليا، واليابان، وكندا، وفرنسا، والمملكة المتحدة. كذلك، تضم المجموعة ثلاث دول نووية: روسيا، والصين، والهند، وأربعة من أقوى جيوش العالم: الصين والهند وروسيا.

غير أن التدقيق في المشهد يدلّ على وجود معطيات ذات تأثير نوعي أقوى وأبعد أثراً من المعطيات الكمّية، فكتلتها البشرية الضخمة مثلاً أقلّ تأثيراً من كتلة مجموعة السبع، بسبب الفارق النوعي في مستوى التعليم والمهارات، وفي الانضباط الاجتماعي والقانوني، وإجمالي الناتج المحلي لا يعكس الهدر والفساد والفوارق الاجتماعية. أما عنصر القوة العسكرية، فالتفوّق الأميركي فيه حاسم.

نعم، تمنح المعطيات المجموعة القدرة على إحداث تأثير كبير بمستقبل النظام الاقتصادي والسياسي العالمي، لكنها ليست قادرة على حسم التنافس ما لم تتعزّز بمعطيات سياسية، توافق كامل بين دول المجموعة، وإدارية، تقلّل الهدر وتقمع الفساد، حيث تعاني دول المجموعة من تباينٍ في المواقف بشأن دور المجموعة والسياسات التي يجب أن تعتمدها في تعاطيها مع دول مجموعة السبع، ومع طلبات دول صغيرة ومتوسّطة ترغب في الانضمام إلى المجموعة، 23 دولة بينها ثماني دول عربية، لاعتبارات متباينة، بعضها، مثل السعودية، للضغط على الولايات المتحدة، وبعضها للاستفادة من القروض التي يقدّمها بنك التنمية الجديد التابع للمجموعة، مثل مصر، وبعضها لتقوية مركزه الجيوسياسي وتعزيز مكانته الإقليمية والدولية في مواجهة ضغوط غربية في الغالب مثل إيران، فالصين وروسيا مع توسعة المجموعة وتحويلها إلى ممثل للجنوب العالمي، ووضعها في مواجهة الغرب العالمي، فيما لا ترى الهند والبرازيل أن لهذا الخيار وجاهة في ظل تداخل المصالح وتشابكها، والاعتماد المتبادل الذي يشهده العالم المعاصر، خصوصاً، والأولى منخرطة في علاقات تعاون سياسي وأمني مع الولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين، والثانية في علاقات اقتصادية وتقنية. قد تنجح المجموعة في وضع أسس لمعايير (وآليات) العضوية المستقبلية لتوليد تدفقات تجارية ومالية أكبر باستخدام عملة خاصة لدول المجموعة، مقترح سيناقش في قمّة المجموعة في جنوب أفريقيا بين 22 و24 أغسطس/ آب الجاري، وتوسيع عدد أعضائها والانفتاح على القوى الوسيطة وأسواقها الواعدة، لكنها لن تبلغ حد إزاحة مجموعة السبع في المدى المنظور.

مقالات ذات صلة