الدم الفلسطيني على الفلسطيني حرام

سامية عيسى

حرير- لم يكن للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ليسمح بأي نوع من الاقتتال الفلسطيني الفلسطيني، حتى مع أشد خصومه. هذا كان مبدأ مقدّسا في التجربة الوطنية الفلسطينية، حتى لو رفعت أطراف فلسطينية السلاح في وجهه هو بالذات. وهذه شهادة للرجل علينا الاعتراف بها، رغم خطايا وأخطاء كثيرة ارتكبت. وإذا حدث أن رفعت إحدى الفصائل السلاح ضدّه وارتكبت خطيئة الاقتتال، كان يسارع إلى لملمة الوضع، حتى لو اضطرّه ذلك إلى تقديم التنازلات لها. حدث هذا بعيْد الاجتياح الإسرائيلي في لبنان مع ما سمّيت “فتح الانتفاضة” التي كانت لها انتقادات جدّية وحقيقية، جعلت مناضلات ومناضلين كثيرين ينخرطون في تلك “الانتفاضة”، وإنْ لم يكن الوقت مناسبا ولا الطريقة التي أدير بها الصراع ونحا منحىً عسكريا في اقتتال دام. كانت لبعض قيادات هذه الانتفاضة آنذاك علاقاتٌ مميّزة مع النظام السوري على حساب المصلحة الوطنية الفلسطينية، والذي اتّبع سياسة تقويض الإرادة الفلسطينية حين تحالف مع خصوم الثورة الفلسطينية في لبنان، وشنّ حروبا ممنهجة عليها، منها مشاركته في إضعاف الثورة تمهيدا لتطويعها لسياسته ووضع اليد على الورقة الفلسطينية وسلب استقلالية القرار الفلسطيني في معرض النزاع العربي الإسرائيلي، لتجييره لمصلحة النظام السوري ورؤيته التفاوضية في تسوية هذا النزاع، بعيدا عن المصلحة الوطنية الفلسطينية.

وصلت بعض هذه السياسات إلى حد المشاركة في مجازر ارتكبها هؤلاء الخصوم في تل الزعتر، أو توريط الثورة الفلسطينية في ارتكاب مجازر ضد المسيحيين كمجزرة الدامور عبر حلفاء لها من بعض القيادات الفلسطينية، هي نفسها القيادات التي ركبت موجة الانتقادات في “فتح الانتفاضة”، وانحرفت بها إلى رفع السلاح جنبا إلى جنب مع النظام السوري ضد ياسر عرفات في حصار طرابلس العام 1983، بعدما أخرجه الاجتياح الإسرائيلي من بيروت، ليعود ويستجمع قواته في البقاع، حين أشعل النظام السوري حربا ضروسا ضدّه، اضطرّت فيها قوات “فتح” إلى الانسحاب إلى طرابلس، حيث حاصرته القوات السورية أربعة أشهر. وجرى تدمير أجزاء واسعة من طرابلس، لدفع أهلها إلى مطالبة عرفات بالخروج منها، درءا لمزيد من الدمار وحقنا لدماء الطرابلسيين الذين احتضنوه. انتهى الحصار حينها بطرده نهائيا من لبنان، أسوة بما فعلته إسرائيل نفسها في اجتياحها لبنان لتصفية الثورة الفلسطينية العام 1982 وارتكابها (مع القوات اللبنانية) مجزرة صبرا وشاتيلا. ولحسن الحظ، اكتشف كثيرون في “فتح الانتفاضة” باكرا كيف غرّر النظام السوري بهم، وتراجعوا عن المضي في حالة الاقتتال، لأن هذا منذ البداية لم يكن القصد من توجيه الانتقادات إلى عرفات والقيادات الفتحاوية، بل سعوا، بانتقاداتهم، إلى مساءلة قيادة فتح التي كانت تشغل الحيز الأكبر والأكثر انتشارا في النضال الشعبي الفلسطيني.

لذا، نستعرض ما سبق للتذكير بتجارب اقتتال أدّت إلى ما أدّت من إراقة دم الإخوة لحسابات وأجندات مريبة، كان غرضها غير المعلن القضاء على الثورة والوجود الفلسطيني في دول الطوق، تمهيدا لثني الفلسطينيين والفلسطينيات من أحفاد اللاجئين عن المطالبة بالعودة وبحقوقهم الوطنية والقانونية التي من أجلها انطلقت الثورة الفلسطينية العام 1965.

لذا، يجب التحذير من تبعاتٍ مدمّرة على الوجود الفلسطيني في داخل فلسطين وخارجها، في كل مرّة يحدُث فيها اقتتال فلسطيني فلسطيني. ولنا أن يحدونا الشك في أن أصابع صهيونية تعمل بخبث على إذكاء حال الانقسام والاقتتال ضمن عقلية فرّق تسد التي اتّبعها الكيان الصهيوني، وأيضا النظام السوري في لبنان. كما حدث في غزّة أيضا حين ارتكبت حماس الإثم نفسه في انقلابها الدموي العام 2007، بل بالغت ببعض الممارسات حد ارتكاب الجرائم مستمدّة الدعم من خارج السياق الفلسطيني التحرّري.

الاشتباكات أخيرا في مخيم عين الحلوة قرب صيدا في لبنان، وإن بدأت فردية، تمدّدت عبر العقلية العشائرية التي تطغى على سلوك أفراد عديدين في الأحزاب الإسلامية والفصائل التقليدية، كحركة فتح، وكالعادة جاء من يصطاد خفية في المياه العكرة. وكما حدث في مخيم اليرموك في دمشق حين تم الإجهاز على كثير منه بعد اندلاع الثورة السورية، ما أدّى إلى تشريد آلاف من الفلسطينيين في كل المعمورة، واعتقال المئات، وعبر تصفيات ممنهجة قام بها النظام السوري مباشرة أو بشكل غير مباشر، عبر أذرع له على الساحة الفلسطينية تدين بالولاء لهذا النظام، منها “الجبهة الشعبية – القيادة العامة” بقيادة أحمد جبريل. ومع الدخول الروسي حلبة الصراع في سورية العام 2015، شاركت القوات الروسية بقوة في الهجوم على مخيم اليرموك، بعدما جرى حصار ساكنيه سنتين تقريبا في حصار التجويع والقتل. وحوّلت القوات الروسية مباني عديدة فيه إلى غبار، بحسب قول عبدالله، أحد الهاربين من جحيم الاقتتال، وكنت التقيتُه في إسطنبول. وصف عبدالله آلة التدمير الروسية بخراطيم عملاقة، ما إن تُلقي بحممها على مباني مخيم اليرموك حتى تتحوّل هذه بلمح البصر إلى غبار. كان يروي تلك الأحداث وكأن غزوا فضائيا اجتاح المخيم. لم فعلت روسيا هذا؟ وبالتواطؤ مع من؟ وينطبق السؤال على النظام السوري أيضا.

حصل شيء شبيه في مخيم حندرات، كما حوصر مخيم النيرب في محافظة حلب في تلك الفترة أيضا، إلى أن جرى ترويضه لمصلحة النظام الذي كاد يلفظ أنفاسه الأخيرة رغم الدعم الهائل الذي تلقّاه من إيران وحزب الله وما يزال. وغضت إيران النظر عما يحدُث للفلسطينيين بحجّة وجود مؤامرة تستهدف سورية.

لم يكن كل تدمير لمخيمات فلسطينية، في سورية ولبنان مصادفة، ولا يمكن له أن يكون من غير الأيدي الخفية للكيان الصهيوني والتقاطعات التي تجمعه مع من يدّعون زورا أنهم محور المقاومة والممانعة، فيما هم ليسوا أقلّ من أحصنة طروادية تعمل على تحقيق طموحات مريبة لاستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية التي قوّضها الإسلام. وليس نظام ولاية الفقيه، وأذرعه المحلية في أكثر من بلد عربي، بريئا من دم الفلسطينيين الذي يدّعي دعمه قضيتهم. فيما هو يتقاطع مع إسرائيل في تفتيتهم ودعم الحركات الإسلامية الانقسامية حد الاقتتال، لإضعافهم وإحكام السيطرة عليهم، حين يحين وقت فرض نفوذها على عموم المنطقة العربية، وعبر الهيمنة على قرار قضيّتهم المركزية فلسطين.

وإذا ربطنا ما يجري في مخيم عين الحلوة مع ما تقدّم، ندرك جيدا خطورة هذا الاقتتال على الوجود الفلسطيني برمّته، والأصابع الصهيونية الخفية التي تصطاد في أي مياه عكرة، وتعبث بخبث وتتغلغل بصمت في ما يجري من أحداث. وإن بدا هذا الاقتتال فلسطينيا فلسطينيا مجرّد اقتتال داخلي بحت. تلك الأيدي الخفيّة التي تستغلّ أحداث مخيم عين الحلوة لتقنص على الجيش اللبناني المرابط في محيط المخيم، وتستهدف بالقذائف ليس بيوت أهل المخيم وساكنيه فحسب، بل أيضا المدنيين اللبنانيين الآمنين، تمهيدا لاستدراج الجيش إلى إعادة مسلسل تدمير مخيم نهر البارد منذ أكثر من عقد تقريبا. فضلا عما يلقاه الفلسطينيون من سلطة رام الله من تجاهل برائحة الخيانة والتخلي، وهي أساسا تقترف ذلك بحق مناضلين ومناضلات في الضفة الغربية عبر التنسيق الأمني مع إسرائيل.

وربطا بما تحضر له حكومة نتنياهو الفاشية سرّا وعلنا، بل عبر تصريحات فجّة عبّر فيها وزيراها الأهم بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير عن نوايا علنية بقيامهما بعمليات طرد جماعية وتطهير عرقي، كما حدث أخيرا، حين ترحيل آلاف من مخيم جنين، استئنافا لما حدث في زمن النكبة الفلسطينية الكبرى العام 1948، وإن فشلت الحملة العسكرية في القضاء على المقاومين، فإنها نجحت في عمليات الطرد الجماعي للآلاف من أهالي المخيم التي هي الأهداف الحقيقية المضمرة لهذه الحملة. وعبر التقدّم خطوة خطوة في عمليات التطهير العرقي، والتي ربما تشكّل خلفية كل ما يحدُث للفلسطينيين في داخل فلسطين التاريخية وخارجها ضمن مخطّط قديم جديد تسعى إسرائيل من خلاله إلى التخلص من الوجود الفلسطيني، عبر تدمير مخيماتهم وتفكيك تجمّعاتهم حتى في مخيمات اللجوء في الداخل، وفي دول الطوق العربية، تتواطأ فيه مع أيد عربية وإسلامية.

ما يريب في أحداث مخيم عين الحلوة أنها تعيد إلى الذاكرة ما سبق واختبره الفلسطينيون في مخيم نهر البارد، بعد دخول جماعة فتح الإسلام إليه، وافتعالها هجوما على الجيش اللبناني كان ردّة فعله عليه عنيفة، إلى درجة تدمير المخيم تدميرا شبه كامل، بذريعة عدم التسامح مع من يمدّ يده على الجيش. وهو ما تفعله بعض الأيدي الخبيثة من المتقاتلين الذين لا نعلم من وراء أفعالهم، فهذا لم يعد يبدو أنه اقتتال فردي أو حزبي أو عشائري. وراء الأكمة ما وراءها في كل الأحداث التي جرى فيها تدمير مخيمات فلسطينية أو ارتكاب مجازر بحقها. إذ دائما ما يجري استدراج قوى محلية من خارج حدود المخيم، كما في حرب المخيمات. وكما تم استدراج الجيش اللبناني في مخيم نهر البارد، وكان تحرّكه مفهوما ومبرّرا لو لم تتم المبالغة به. فمن دمّرت بيوتهم ومتاجرهم يومها لم تكن لهم علاقة بـ”فتح الإسلام” الدخلاء على المخيم. ولا يوافقون على جرائمهم ضد الجيش.

أياد كثيرة رعت هذه الفتنة، وقوّضت أحد أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. أياد كثيرة تعبث بالوجود الفلسطيني في مخيّمات اللاجئين، لا نملك دليلا لإثباتها غير المنطق الذي يرى شبكة المصالح المتعارضة والمتقاطعة من أطراف محلية وإقليمية ودولية، وفي مقدمها المصلحة الإسرائيلية للتخلّص من الوجود الفلسطيني أينما كان، كما الجهات التي تستفيد من إضعاف هذا الوجود عبر أجنداتها الخبيثة.

ولكن، أيا تكن من أبعاد خلف أحداث مخيم عين الحلوة، فالعتب أساسا على صغار المسلحين الفلسطينيين ممن يسيرون وراء جماعات أو فصائل، ويحملون بجهل السلاح ضد إخوتهم، تحرّضهم غرائز الانتقام، وكراهية تافهة خالية من أي معنىً أو حكمة. ولكن الجهل لا يغفر للمغفلين. وإدراك ما يحمله مبدأ الدم الفلسطيني على الفلسطيني حرام، مهما كانت الذريعة، فهذا الدم الذي يُراق يصب في أنهار الدماء الفلسطينية التي تسفكها إسرائيل كل يوم. إراقة الدم الفلسطيني للفلسطيني حرام، وخيانة عظمى.

مقالات ذات صلة