سياسات تركية متناغمة مع الغرب والشرق

رانيا مصطفى

حرير- بدأت تتّضح ملامح السياسات التركية الجديدة بعد مضي أكثر من شهرين على الفوز الصعب الذي انتزعه الرئيس رجب طيب أردوغان من معارضيه في الانتخابات الرئاسية. ما زال الرئيس يتحدّث عن تركيا عظيمة وكبيرة، ولم يتراجع عن طموحه باستعادة أمجاد سابقة زمن الإمبراطورية العثمانية، مع تمسّكه اللافت، هذه المرّة، بمبادئ الدولة العلمانية الحديثة التي أسّسها أتاتورك، حيث زاد من احتفائه بذكرى تأسيس الجمهورية. رفع أردوغان شعار “قرن تركيا” خلال حملته الانتخابية، رغم الصعوبات التي يواجهها، سواء في علاقته المتوترة مع الولايات المتحدة والغرب، أو الوضع الاقتصادي المتردّي وارتفاع البطالة وانهيار العملة، والانشغال في الأشهر السابقة بمعالجة نتائج الزلزال المدمّر الذي ضرب الجنوب التركي في 6 فبراير/ شباط الماضي. هو يتحدّث اليوم عن إنجازات ضخمة يسعى إلى تحقيقها، من دون أن يمتلك سياسات واضحة بشأن كيفية تحقيق هذه الأحلام، غير تحسين العلاقات المتوترة، والتي بدأها مع الإمارات والسعودية ومصر، وكذلك إسرائيل، وحاليا مع الولايات المتحدة والغرب.

داخلياً، يركّز أردوغان على إيقاف التضخّم، حيث تخلى عن سياساته غير التقليدية، بمواجهة التضخّم بخفض سعر الفائدة (انخفضت إلى النصف تقريباً بداية 2021)، حينها كان يسعى إلى فطام تركيا عن الاعتماد الاقتصادي على الشركاء الغربيين؛ وراهن، في الأشهر الأخيرة، على حجم التدفقات القادمة من الخليج العربي عبر إيداعات وصناديق استثمارية، إضافة إلى التسهيلات التي تقدّمها له روسيا، حول تأجيل مدفوعات الغاز الطبيعي، وتمويل أول محطة للطاقة الذرية في تركيا بقيمة 800 مليون دولار؛ لكن ذلك كله لم يكن كافياً لإيقاف التضخّم وتدهور العملة بعد تجاوز قيمتها 26 ليرة أمام الدولار.

عين أردوغان فور إعلان فوزه، حكومة تكنوقراط، وعكَسَ فريقُه الاقتصادي الجديد اتجاهَ سعر الفائدة ارتفاعاً، وبعودة إلى السياسات الاقتصادية التقليدية حلّا إسعافيا لإيقاف تدهور العملة. أردوغان مهتم حاليا بالانتخابات البلدية في العام المقبل، ويريد عدم تكرار التجربة السابقة بخسارة حزب العدالة والتنمية في أنقرة وإسطنبول؛ لذلك يحظى الوضع الداخلي بأولوية، مع وعودٍ بدستور جديد، ديمقراطي وعلماني، ويرسّخ الحريات الفردية وحرية التعبير وسيادة القانون، وتحقيق إنجازات فيما يتعلق بتصنيع أول سيارة تركية تعمل على الطاقة الكهربائية، وخطّة لجعل تركيا مركزاً عالمياً للطاقة عبر تمرير الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية بواسطة مشروع “السيل التركي”، واكتشاف 540 مليار متر مكعّب من احتياطات الغاز الطبيعي في البحر الأسود، واكتشاف النفط على حدود العراق، والمطالبة بترسيم الحدود البحرية غرب المتوسّط لحسم الصراع على الغاز الطبيعي.

من السياسات الواضحة للرئيس التركي أيضاً تحسين العلاقات مع الغرب، بعد توتر دام قرابة ثماني سنوات، خصوصا بسبب النزاع في سورية ودعم التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) التنظيمات الكردية التي تصفها تركيا بالإرهابية، والنزاع على السيادة البحرية شرق المتوسط وحول قبرص، ومنظومة الصواريخ الروسية إس – 400 التي تتعارض مع كون تركيا عضواً في حلف الناتو. وافقت تركيا على انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي، في قمة ليتوانيا، بعد مماطلة وتسويف، وحصلت على موافقة استوكهولم على تصنيف حزب العمال الكردستاني في قوائم الإرهاب؛ وكذلك أنقرة على وشك الحصول على صفقة مقاتلات إف – 16 الأميركية التي كانت متعثرة. يتوافق هذا التقارب مع الغرب مع ما تريده غالبية النخب المجتمعية التركية، ومع عقيدة الجيش التركي، لكنه، في الوقت نفسه، يُغضب الحليف الروسي الذي يخوض معارك حاسمة في أوكرانيا.

لا تريد تركيا التخلي عن التوافقات التي أنجزتها مع روسيا في سورية، وكذلك هي مهتمة بنفوذها في البلقان وأفريقيا وآسيا الوسطى، كما أن 33% من احتياطاتها الوطنية بعملات غير الدولار، اليوان والروبل، حسب تقارير لصندوق النقد الدولي في 2022، وهي مستعدّة للانضمام إلى تحالف بريكس الاقتصادي، خصوصا أنه يحقق نمواً متسارعاً مقارنة بالغرب، إضافة إلى اقتراب تبنّي قمة بريكس المقبلة في جوهانسبرغ في 22 أغسطس/ آب الجاري، لعملة مشفّرة موحّدة ضمن المجموعة التي تضم روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا؛ وهذا يتوافق مع الطموحات التركية بالبحث عن مكانة عظيمة في عالم متعدّد الأقطاب، ولا يمكن أن يهبها الغرب لأنقرة، وهو يُشهر باستمرار استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية.

أردوغان المنتصر في معركة انتخابية شرسة، وصاحب أطول فترة رئاسية في الحكم، يعد شعبه والعالم بتحويل تركيا إلى أهم الدول الصناعية والتجارية وأكبرها، من دون أن يملك حلولاً حقيقية لأزمة بلاده الاقتصادية، سوى اللجوء إلى سياسات غربية تقليدية لمواجهة التضخّم؛ وهو أيضاً يتّبع سياساتٍ وسطية على الصعيد العالمي لا تميل إلى أحلاف بعينها، في عالم بات شديد التأزّم والاستقطاب بسبب الحرب الطاحنة في أوكرانيا، واحتمالات نشوب حروبٍ جديدةٍ في المحيطين الهندي والهادئ، بدفع أميركي، لحماية هيمنة الدولار الاقتصادية. هذا غير تخلي تركيا عن سياسة تصفير المشكلات، وتبنّي سياسات التدخل في دول العالم، في سورية والعراق وليبيا وأفريقيا والقوقاز وأفغانستان ووسط آسيا؛ وهو ما شكّل أزمات في الداخل التركي، مثلاً بسبب استقبال تركيا اللاجئين السوريين، وهو ما عجز أردوغان عن حله، بعد فشل المصالحة مع الرئيس السوري بشار الأسد؛ يضاف إلى ذلك استمرار التهديدات القادمة من الحدود الجنوبية في شمالي شرقي سورية، والتي تعتبر ورقة أميركية شديدة التأثير على سياق السياسات التركية العامة.

مقالات ذات صلة