فلسطينيو 1948 في عين العاصفة

محمود الريماوي

حرير- ما بدا طوال عقود أنه وضعٌ خاص، وعلى درجة من “التميّز” لعرب العام 1948، على أرضهم، بات في سبيله إلى التغير نحو الأسوأ، فعلى طريقتها الخاصة، أخذت الدولة العبرية تعترف بوحدة مكونات شعب فلسطين، سواء من هم داخل هذه الدولة، أو من يقعون تحت الاحتلال في الضفة الغربية، أو من يتعرضون لحصار بري وبحري وجوي في قطاع غزّة. وطريقتها في الاعتراف تتمثّل بتوزيع الظلم الفادح هنا وهناك، وفي تعريض مكوّنات شعب فلسطين لحملات التصفية الجسدية، وسلب الموارد الطبيعية: الأرض والمياه، وهدم البيوت وشن الاعتقالات. إذ يكاد لا يمضي يوم من دون أن ترتكب قوات الاحتلال جريمة قتل في الضفة الغربية، أو تغضّ النظر عن اقتراف الجرائم شبه اليومية بحقّ أفراد من المجتمع العربي أو سلب أراضيهم كما يجري في النقب والجليل داخل الدولة الإسرائيلية. أما قطاع غزّة، فمنذ أن سحب أرييل شارون قوات الجيش وعشرات المستوطنين منه في العام 2005، جرى شنّ ثماني حروب تدميرية على القطاع، تضاف إلى الحصار الخانق متعدّد الأوجه، وذلك لمنع أبناء القطاع من إقامة حياة طبيعية مزدهرة.

وبينما انشغلت الدولة العبرية في ما مضى بمحاولة تقويض المؤسّسات الفلسطينية السياسية، وتصفية المظاهر المؤسّسية للوجود الفلسطيني في القدس الشرقية المحتلة، فقد انصرفت بعدئذٍ مع صعود اليمين الأشدّ تطرّفا لمحاربة المجتمع الفلسطيني، أفرادا وجماعات، وكما أن الوعي الصهيوني لدى الشرائح الأشد تطرّفا من المستوطنين والمتدينين وبعض مدّعي العلمانية زاخرٌ بمعتقدات تفيد بأن قيام دولة فلسطينية يعني بدء نهاية الدولة الإسرائيلية، كما عبّر عن ذلك غير مرّة رئيس الوزراء السابق، المستوطن نفتالي بينت، فإن هذا الوعي غير الجديد تماما، بل المتجدّد، بات يرى في وجود الفلسطينيين على أرضهم، كتلة بشرية متجانسة، نقضاً لوجود المجتمع الصهيوني نفسه، وذلك استنادا لمعادلةٍ صفريةٍ من جهة، وإعمالا لرؤيةٍ عنصريةٍ خالصةٍ ذات مرجعيةٍ دينيةٍ مزعومةٍ من جهة ثانية.

وبعد تنكيلٍ منهجي ثابت لا ينقطع ضد الرازحين تحت الاحتلال منذ 1967 من دون أن يحدّ نشوء السلطة الوطنية في العام 1994 من هذا التنكيل، فقد التفتت المؤسّسة الإسرائيلية إلى الوجود العربي داخل الخط الأخضر (داخل الدولة العبرية)، حيث لاحظت التفاعل الذي يبديه 20% من السكان مع قضية أبناء شعبهم منذ العام 2000 على الأقل، حين جرت مظاهرات احتجاجية على اقتحام شارون المسجد الأقصى. وقد أطلقت القوات الإسرائيلية النيران الحيّة، ما أدّى إلى مصرع 13 شخصا من المتظاهرين في الجليل والمثلث، مع العلم أن القوات الإسرائيلية لا تعمد إلى هذا الأسلوب الدموي في التعامل مع المتظاهرين اليهود، ومن مظاهر ذلك خروج عشرات الآلاف من هؤلاء منذ بضعة أشهر ضد نتنياهو من دون أن يمسّهم سوء.

غير أن عام 2015 شهد نقطة تحوّل في اندفاع المؤسّسة الصهيونية إلى إغراق المجتمع العربي في الداخل بالدم، ففي ذلك العام، ارتفع معدّل الجرائم الجنائية بنسبة 50% عن العام السابق، وحافظت هذه النسبة على ارتفاعها في الأعوام اللاحقة، ووجه الغرابة في هذه الجرائم أنه قليلا ما يتم الوصول إلى المرتكبين أو كشف هوياتهم، ولطالما جرى استهداف أشخاص بغير أن يتعرّضوا لتهديد من قبل. ومن المفارقات التي رصدها متابعون أن معدل اقتراف الجرائم يزيد مع فتح مراكز للشرطة في بلدات عربية. ولا تبدي المؤسسة الصهيونية، بمختلف أذرعها، قلقا تجاه هذه الظاهرة. وكما ينسب لقائد الشرطة الإسرائيلية، كوفي شبطاي قوله إنه “لا يوجد ما يمكن فعله. إنهم يقتلون أحدهم الآخر. هذه طبيعتهم. هذه هي عقلية العرب”.

في واقع الأمر، شهد العقد الأخير تقدّما للمجتمع العربي الفلسطيني في سائر المجالات، وقد برز على سبيل المثال الدور الذي أدّاه الأطباء العرب والعاملون في المهن الطبية المساعدة في التعامل مع جائحة كورونا، مع تنامي الوعي السياسي في صفوف نحو مليون و800 ألف نسمة، واندفاعهم إلى التأطير في منظمات وجمعيات ومؤسّسات أهلية عربية وإسرائيلية، بما في ذلك الاقتراع لصالح أحزاب عربية لانتخابات الكنيست، وزيادة شعورهم بأنهم كتلة قومية متجذّرة في أرضها، وتمييزهم بين الحقّ في المواطنة والأسرلة التي يرفضونها… وأمام موجة الوعي هذه التي امتدّت إلى الجيل الجديد، وخصوصا في الجامعات، فقد نشطت المؤسّسة الصهيونية في تهيئة الظروف لارتكاب الجرائم الجنائية، عبر التعاون بين حهاز الأمن الداخلي (الشاباك) وعصابات عربية للجريمة المنظّمة، بحيث تم تمكين هؤلاء من التزوّد بأسلحة مرخّصة وغير مرخّصة، وغضّ النظر عن جرائمهم مقابل تقديم خدمات أمنية لـ”الشاباك”، فعمدت هذه العصابات إلى تهديد تجّار لدفع إتاوات، وتهديد أعضاء في مجالس محلية (بلديات) من أجل الحصول على عطاءات لمشاريع. وفي غمرة التنافس بين أفراد هذه العصابات، جرت عمليات تصفية متبادلة طاولت أفراد عائلات وأقارب، وأورثت، كما هو متوقّع، احتقانات وأحقادا وتهديدات بالانتقام، بما ينذر بزجّ المجتمع في دوامة جهنمية من التوترات والشعور بافتقاد الأمن الشخصي والمعيشي واثارة الشكوك بين المكوّنات الاجتماعية والمناطقية والعائلية. وفي سبيل دفع المجتمع إلى العيش تحت هذه التهديدات، والانصراف عن الانشغال بالهمّ الوطني العام وعن الأطر الصالحة للنشاط الاجتماعي والثقافي والحزبي. وأمام تفاقم هذه الموجة، شهدت المدن والبلدات العربية تظاهرات احتجاجية قبل أيام، وبعد أن وصل عدد الضحايا إلى ما يناهز مائة ضحية منذ بداية العام 2023، فيما السلطات تتفرّج وتدّعي البراءة، فبدلاً من أن تعمل على وقف مسلسل الجرائم، تستغلّ هذا المناخ من أجل زج جهاز الشاباك في مزيد من مراقبة المواطنين وتتبع حركاتهم وسكناتهم، بداعي مكافحة الجريمة، علما أن هذا الجهاز ينشط في الأساس لمتابعة الناشطين أو أصحاب الآراء على خلفيةٍ قومية، مع ملاحظة أنه لا يعمد إلى العمل مع الشرطة لمتابعة الجرائم التي تقع في الوسط اليهودي.

ولا يتردّد الفاعلون السياسيون والحزبيون العرب في التذكير بمواقف منظّمات حقوقية دولية، باعتبار الدولة الصهيونية دولة تمييز وفصل عنصري، واتهام الشرطة الإسرائيلية بإفساح المجال وتهيئة الظروف لاستشراء الجرائم التي تطاول نساءً وأطفالاً، وأن ذلك يتم لأسبابٍ قوميةٍ من أجل إضعاف مناعة المجتمع العربي، وتمزيق نسيجه، ووقف تطوّره، ويستدلون على ذلك بالنسب الهزيلة لاكتشاف مرتكبي الجرائم في الوسط العربي، مقارنة بمثيلتها في الوسط اليهودي.

مقالات ذات صلة